ورطة البروفيسور بسيوني (المقال الأول)

عبدالهادي خلف - 2011-08-10 - 9:32 ص



عبدالهادي خلف*
   

ثمة مؤشرات كثيرة على أن الدكتور محمد شريف بسيوني لم يكن يعرف إنه سيخوض تجربة جديدة عليه تماماً حين وافق على تكليف الملك له بتشكيل لجنته لتقصي الحقائق. تجربةٌ لا مثيل لها فيما شهده تاريخه المهني الحافل ولاتسعفه فيها على ما يبدو خبراته الماضية. 

أسارع للتأكيد على إنني لا أشك البتة في أن البروفيسور بسيوني ويقية أعضاء فريقه ومساعديهم سيتمكنون من إنجاز ما هو مطلوبٌ منهم رغم قصر المدة الزمنية المعطاة لهم ورغم المؤاخذات لدى الكثيرين على نشاطهم حتى الآن ورغم غياب الشفافية في إطلاع الناس على الإطار المرجعي ( بما فيها تفاصيل عقد التكليف) للمهمة المكلفين بها. فلا أحد يعرف على سبيل المثال ماهو المطلوب فعلاً من اللجنة وما هي حدود صلاحياتها. 

ولا أشك أيضاً في إن اللجنة ستقوم بما تصدت للقيام به بالمهنية العالية اللازمة رغم التحفظات المشروعة حول عضو اللجنة الدكتورة بدرية العوضي بسبب موقفها المدافع عن مشروعية دخول القوات السعودية إلى البحرين. فلتلك القوات دورٌ في حصار مناطق سكنية وقرى وتسهيل التنكيل بسكانها.  

ورطة البروفيسور بسيوني لا تكمن في الأستاذة الدكتورة العوضي فلا أحد يملك أن يشكك في الأخلاقيات المهنية لأي من أعضاء اللجنة. 

ولكنها ورطة تتمثل في الإجابات المختلفة على السؤال المزدوج أهي لجنة تقصي حقائق كما يراها البروفيسور أم هي جزء من مشروع علاقات عامة كما يريدها الملك؟  

نرى بعض نتائج الورطة جراء انتشار البروفيسور إعلامياً مما سبب له إحراجات هو في غنى عنها.  بل وأحرج أمثالي ممن يثقون في مهنيته وساهموا في الدعوة لإنجاح مهمته.  فلقد تدفق المديح للملك وولي العهد ووزير الداخلية في تصريحاته الإعلامية محلياً ودوليا. مع أن هؤلاء هم أنفسهم مسئولون سياسياً وعملياتياً وبشكل مباشر ويومي عن قوة الدفاع والحرس الوطني وقوات الشرطة وغيرها من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي يستقصي البروفيسور بسيوني وزملاؤه أدوارهم فيما مرت به البلاد من أحداث دموية.  

عدا المديح المتعجل وغير المبرر في نظري الذي كاله البروفيسور إلى المسئولين الذين قابلهم، فلقد رأينا  إن إنتشاره الإعلامي قد أدى إلى  تسرعه في إطلاق الأحكام المسبقة أو ما سماه أخونا  نبيل رجب "آراء مستندة إلى مجموعة من الافتراضات الخاطئة". (مرآة البحرين 10أغسطس 2011 ).  بطبيعة الحال يصب انتشار البروفسور إعلامياً الماء في طاحونة من يعتبر أن لجنته ليست أكثر من واحدة من مشاريع العلاقات العامة التي تعود الملك على إطلاقها للتخلص من مأزق سياسي أو للهروب من أزمة. 

ورطة البروفيسور بسيوني هي نتيجة أنه لم يستوعب حتى الآن أنه  في حاجة  إلى وقت يمضيه للتعرف على خلفيات الحالة/القضية التي يستقصي الحقائق حولها في فترة معينة من تاريخها. هو يحتاج إلى وقتٍ يقضيه من أجل التعرف على بعض تلك الخصوصيات التي تجعل البحرين وحدها بين بلدان الخليج العربية، تعاني من عدم استقرار مزمن في شكل حلقات دورية من القمع والمقاومة، لم تتوقف منذ بدايات القرن الماضي وحتى الآن.  

فلو أخذ وقته لاستشارة بعض من عشرات الدراسات الحديثة عن الواقع السياسي/الاجتماعي في البحرين لما رأيناه مشدوهاً كلما التقى الملك أو واحداً من مسئوليه وبما يتلقاه من وعود في داخل الدواوين والمجالس الرسمية. ولو أخذ البروفيسور وقتاً للحديث مع أكاديميين مبرزين مقيمين في البحرين، ومنهم ممنوعون من العمل أو مفصولين من جامعاتهم، لما رأيناه متعجباً حين لا يتطابق  ما يراه على أرض الواقع مع تلك الوعود. 

فالبحرين غير، كما ردد شعار الترويج السياحي قبل سنوات.  في أقل من شهر على ممارسة اللجنة مهامها رأينا شواهد كثيرة تؤكد  أن البروفيسور في حاجة إلى وقت معقول يمضيه في دراسة الخصوصيات التي تجعل البحرين مختلفة تماماً عن شقيقاتها العريبات وحتى الخليجيات. فهو لم يسمع بعبارة "التطهير" التي جرت على لسان أغلب المسئولين ولم تخل منها الصحف وأجهزة الإعلام المرئية والمسموعة التابعة للسلطة. 

بل هو لم يلحظ أن اليوم التالي لإعلان الملك عن تشكيل لجنته لتقصي الحقائق كانت قوات الأمن تقمع اعتصاماً في جدحفص تحت شعار "تقرير المصير". وحسب ما هو متداول من أخبار فلقد  امتدت تلك المواجهات طوال فترة بعد الظهر استخدمت قوات الأمن فيها الآليات لمحاصرة المنطقة  علاوة على استخدام رجال الأمن والمسلحين بالزي المدني الرصاص المطاطي والقنابل الصوتية والمسيلة للدموع. 

ولعل غيري كثير ممن تعوذوا بالله حين شاهدوا على شاشة تلفزيون البحرين في الأول من يوليو  لحظات استقبال الملك للبروفيسور بسيوني.  لم نسمع ما قيل يومها ولكننا تطيرنا من مشاهدة  شخصيْن حضرا ذلك الاجتماع هما خالد بن أحمد وأحمد عطية الله وجلسا مقابل البروفيسور. 

نعم لا يملك الضيف المكلف بهذه المهمة "غير المسبوقة" أن يقرر من يحضر ذلك اللقاء لمساعدة الملك في حديثة مع الخبير الحقوقي. ونعم لا يلام البروفيسور على عدم معرفته بتاريخ  هذيْن الشخصيْن اللذيْن يرتبط اسميهما بواحدة من أخبث مشاريع الهندسة الاجتماعية/الديموغرافية.

ولكنها المشاهد التي عرضها التلفزيون البحريني للبروفيسور  في تلك الجلسة لم تكن لتساعد على توثيق الثقة بما هو قادم.  وحدها البحرين بين الدول العربية التي تحكمها عائلة تفاخر بأنها أخذت البلاد بحد السيف عام 1783 ومنه تستمد شرعيتها. والبحرين وحدها بين بلدان الخليج العربية التي تجاهر العائلة الحاكمة فيها بأن البلاد هي غنيمة حرب خاضتها وغلبت فيها. ولسوء الحظ فهي تتصرف كما تصرف المستعمرون الغرييون في البلدان المستعمرة. 

وهي مثلهم ترى في تطبيق استراتيجية "فرق تسد" منافع كثيرة تديم سلطتها وتشتت مقاومة الناس لها. ولا يخفى أن أحد أبرز هذه الاسترتيجية هو التمييز بين مكونات المجتمع حتى تنشغل هذه ببعضها البعض حتى ولو تطلبت مصالح السلطة تمزيق النسيج الاجتماعي التي ربطها عبر قرون من العيش المشترك. ولهذا نرى في مظاهر التمييز على أساس الانتماء العائلي والمناطقي والطائفي في جميع زوايا البلاد. إلا إن استراتيجية " فرق تسد" لا تهدف عبر التمييز إلى زيادة رفاهية هذه المنطقة أو القبيلة أو الطائفة على مثيلاتها بل  تهدف إلى خدمة مصالح العائلة الخليفية الحاكمة وإدامة امتيازاتها المؤسسة على موروث الغزو. 

هذه الخصوصيات البحرينية هي التي أفشلت وما زالت جميع المحاولات لبناء مؤسسات دولة حديثة. وهي التي تبقي "الدولة" مجرد مجمع لإدارات في يد سلطة أمر واقع لا يهمها اقتناع الناس بها ما دامت تستطيع  شراء ولائهم  أو إرغامهم بقوة السيف على طاعتها. وهذه الخصوصيات هي التي جعلت الإدارات الحكومية تبقى كما هي منذ نشأتها قبل تسعين عاماً امتداداً للعائلة الحاكمة ومجالاً من مجالات تقاسم الغنيمة.  

يتعجب البروفيسور بسيوني في مقابلته المنشورة في جريدة الوسط (9أغسطس 2011) من عدم تنفيذ قرار ملكي صدر "بإنهاء الفصل وإعادة الأشخاص الذين فُصلوا" من أعمالهم. بل نراه يشتكي من أن لجنته تستلم "حتى الآن بيانات من أشخاص مختلفة تبين أن الفصل مستمر، وأن الذين فصلوا قبل ذلك لم يعادوا إلى أعمالهم" ولكن هذا هو النهجُ الذي تعودنا عليه منذ أن تفتحت أعيننا سياسياً. وهو نهجٌ انغمس فيه الملك الحالي وتفوق في تطبيقه على جميع من نعرف من أسلافه.  تنعكس آثار هذه الخصوصيات البحرينية، وفي مقدمتها اعتبار البلاد أرضاً وناساً غنيمة غزو، على محتلف جوانب العلاقة بين الناس  وبين العائلة الخليفية. 

فهذه ترى نفسها خارج الوطن وفوقه في آن. ولا يحتاج أحدٌ إلى الذهاب إلى أبعد من خلفيات تشكيل مؤتمر حوار التوافق الوطني. فالسلطة لا ترى نفسها معنية بالتحاور مع أنصارها ومواليها فما بالك بمعارضيها وفيهم من يطالب بإسقاطها. لقد استطاعت من خلال إدارتها لذلك "الحوار" أن تحصل عملياً على إقرار من اختارتهم السلطة نفسها  لــ"لتمثيل" الناس بحقها المؤسس على موروث الغزو في أن تكون خارج المعادلة وفوقها. بل أن العائلة الخليفية، المختلف على شرعية سلطتها، احتفظت بموقعهأ كحكمٍ  بين متنازعين.  وصار التنافس بين "المرئيات" أكثر من ثلاثمائة جهة مشاركة في "الحوار" بديلاً عن البحث عن أسس عملية يمكن التوافق عليها لبناء دولة دستورية عصرية. 

لم يشهد البروفيسور مجريات جلسات "الحوار" ولا أظنه في حاجة للعودة إليها. فسيكفيه أن يتفرغ لبعض الوقت في الأسبوع القادم حين تحتفل فصائل المعارضة، وليس السلطة، بالذكرى الثلاثين لإعلان استقلال البحرين في الخامس عشر من أغسطس. أما لماذا لا تحتفل السلطة بهذه الذكرى بل لماذا تمنع بالقوة الجمعيات السياسية والأهلية، فلأنها ببساطة لا تعتبره عيداً وطنياً.  فالعيد الوطني البحريني رسمياً، كما هو معلوم، هو يوم اعتلاء والد الملك الحالي سدة المشيخة في السادس عشر من ديسمبر 1961. وهذا يجعله أكثر انسجاماً مع سرديات موروث الغزو بالمقارنة إلى ما يمثله الاحتفال بعيد الاستقلال.   

للمقال بقية، المقال الثاني

*أستاذ علم الاجتماع في جامعة لوند - السويد

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus