عصيٌّ على الموت يا حُسين..
2011-08-26 - 3:47 م
في الحياة أشخاص مؤثرون، قد يقلبون عليك نظامك النفسي، من دون أن تحيطهم بذلك علما، ومن دون أن تُذيع سرهم لأحد من الناس إلا نفسك. تظن أنه اكتشافك؛ نظرتك للعالم والأشياء؛ جزء من شخصيتك. تذوب أرواحهم فيك، بلا وعي منك، وفي لحظة ما تستفيق. تنتبه. أنت كما أنت بفضلهم. أنت الآن امتداد لأرواحهم التي سكنتك.
تمر السنون في سرعة مجنونة. ندخلُ التجارب إثر بعضها. يطوف بنا أشخاص. بعضهم يبقى وكثير منهم يرحل. هي الحياة دوامة وإعصار هائج. وكما تعلمناها في الكتب؛ تبقى القيم.. والقيم مقامها الروح، والروح مقامها الخلود، والخلود جوهر الأبدية.
طاف بي خياله خفيفا، حين كان يحث الخطى في فصلنا الدراسي، حسين الأمير.. زميل اللغة العربية بجامعة البحرين. وكيف بادرتُه: أنْ انتبه، خوف تعثره أو سقوطه، غير أنه فاجأني بابتسامة الحكيم، وقال لي لفظة واحدة: أرى. أكملَ السير نحو كرسيه واستوى في جلسته واثقا. راقبته في حرج، لكأنه خشي أن يحرجني فابتسم. ومنذ لحظتها انقلب نظامي النفسي.
حسين الأمير، شخصيتي التي لم أبُح بها لأحد، لطالما سايرتْهُ عيناي، باحثةً في شخصه عن الرضى والقناعة والهدوء النفسي. لم أجده عابسا يوما، ولا متلعثما، أو متلجلجا في إجابة. أحرَص الطلاب على الحضور والنقاش. أبدَعُنا فكرا، خيالا، وأدبا.
أي مكفوف، كان ليثير شفقة أي منا، لكن ليس حسين الأمير. فحين أرجع إلى الوراء قليلا، أتذكر أول تسجيل للمقررات الجامعية التي أعدها أسوأ أيام الجامعة. أراه يقف مع أخيه، مُمسكين ببعضيهما بشكل لافت، فأخوه كفيف كذلك، يسيران نحونا. يبدوان كشخص واحد، فيأخذنا العجب! كنت أفكر في أمهما، كيف أنها عظيمة. كيف جاهدت لتوصلهما إلى هذه المرحلة! لكن عجبي سرعان ما زال لمّا رأيته يدخل معي صفوف الدراسة ذاتها.
زميل في مثل ثقافته وسعة اطلاعه. جديته، ورشاقة روحه، كان ليدهش أيا منّا، فلم أعد أرفع رأسي إليه حين يمتشق فصول الدراسة؛ فقد أضحيت أُحرج من نفسي، لا لأنه يرى أفضل مني، لا. لأنه ببساطة – ومن دون كلام – علّمني تلك المعاني التي ذابت في نفسي، وكوّنت ذاك الجزء الكبير من شخصيتي – علّمني – أن أكون أكثر تواضعا، وكيف أن حواسي المكتملة ظاهريا. ليست أكثر من شكل بلا جوهر، ما لم تكن مُصغية جيدا للناس والوجود.
منذ تخرجتُ من مرحلة الباكالريوس، أي ما يقارب عقدا كاملا، لم أره سوى في صحيفة أو تلفاز. تابعته من بعيد، وكأنني أستمد منه طاقة للروح. علمتُ أنه مدرس للغة العربية، وعلوم الحاسوب، ولم أقرأ عن نشاط لذوي الإعاقة إلا كان فيه العَلم المبرز. شاهدته يعزف ألحانا شجية، تعكس روحه الشفيفة النقية. كانت الموسيقى على يديه أحاسيس وصورا. وآخر ما عرفت أنه مُحكِّم في كثير من المهرجانات الإنشادية داخل البحرين وخارجها.
حسين الأمير عطاء نادر، ومواهب متفرِّدة. ومن مثله كما يقول محمود درويش ( عصيّ على الموت). عرفته زميل دراسة. وعرفت زوجته زميلة عمل، لكن الغريب، أنني لم أعرفهما زوجين إلا في لحظة الموت.. فطوبي لامرأة كان حسين الأمير زوجها.
زهرة عيسى