» رأي
شواغل الثقافة العربية..من سرت إلى المنامة
علي داوود - 2011-11-09 - 9:15 ص
ستطارد صورة مدينة (سرت) التي كتب بها الثوار الليبيون خاتمة النضال المسلح ضد نظام معمر القذافي المقبور حكومة المنامة، وهي تتجهز لتسلم شعلة الثقافة العربية من هذه المدينة التي اختارها القذافي لتكون عاصمة الثقافة العربية خلال العام 2011، وأراد لها أن تكون عاصمة للتهليل والتبجيل بصاحب الكتاب الأخضر، ومناسبة لطمس كل ما هو مغاير للثقافة الرسمية، فشاءت الأقدار أن تكون موعداً لنهاية حقبة الجنون التي طالت أكثر من أربعين عاماً، ليموت فيها، ويولد مع موته الأمل بحياة تتشرب من ثقافة الحرية.
ربما لا أحد يتذكر اليوم أحوال (سرت) كعاصمة ثقافية خلال هذا العام، فوقائع الثورة كانت النشاط الإنساني الأبرز في ليبيا طيلة المدة السابقة. عبرت مشاهد الافتتاح لهذه الاحتفالية عبر القنوات الفضائية ثم احتجبت لصالح الإرادة الشعبية التي مضت بكل صور النضال ناحية خيار "الثورة"، لتبدأ من هناك رغبة الخلاص من هذا النظام الذي سخر الثقافة ومؤسساتها لأحلامه المجنونة التي دفع ثمنها أفراد الشعب الليبي.
سقطت (سرت) وسقطت لافتاتها من كل مكان "المؤتمرات واللجان في كل مكان"، وسقط تمثيلها "لا نيابة عن الشعب والتمثيل تدجيل" وسقطت معها محاولات القذافي استثمار "العاصمة الثقافية" لحراسة الثقافة الرسمية، وترميم صورة الديكاتورية، غير أن هذا لن يحول دون استمرار الحرس القديم في الثقافة العربية في توظيف هذه المناسبة لمشاريع التلميع والتمييع الثقافيين، وجعل مشروع العاصمة مجرد احتفالية لتعزيز الهيمنة الرسمية على الثقافة عبر دفق رؤوس الأموال التي ستصب بالنتيجة في خلق برامج ومخلوقات ثقافية ممهورة بتوقيع السلطة.
خرجت الثقافة العربية من هذه المعركة الطويلة بحمولة كبيرة من الأسئلة المصيرية حول قيمة الإنسان والنضال والسلوكيات المدمرة للسلطة التي أجلت في عدد كبير من الدول العربية مشاريع النهوض الحضاري، وخلقت بأفعالها حالات ثقافية مرضية، تبدأ بعبودية السلطان ولا تنتهي عن حدود المتاجرة بحقوق الإنسان والمزايدة عليها.أصبح المثقف في دائرة المساءلة عن علاقته بالسلطة، وعن مشاريع التدجين التي يمضي إليها في كل حقبة.
حكومة المنامة، التي عدت اختيارها عاصمة للثقافة في عام 2012 إنجازاً، رغم أنه لا يتجاوز مسألة تقسيم وتوزيع للأدور، وقد جرى الاختيار مبكراً في عام 2004 بصنعاء، لن تجد في كونها العاصمة التي تلي مدينة سرت ما يبعث على التفاؤل، خاصة وهي تواجه منذ مطلع العام زخماً من الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية التي تجد في كل انتصار لثورة عربية سببا للانتشاء والاستمرار في مطالبها، وقد بدأت علامات الشؤوم تلوح في الأفق بعد انطلاق دعوات ثقافية تطالب بمقاطعة المنامة كعاصمة للثقافة، والتي إذا ما اتسعت وسجلت حضوراً عربياً ستزيد من الحرج الإعلامي الذي تعيشه السلطة صباحاً ومساءً.
وبالرغم من كون ذلك الاختيار قد جرى في وقت سابق للأحداث الأخيرة، إلا أن هذا الاستمرار في اختيار المنامة عاصمة للثقافة بعد كل هذه الجولات من القمع والعنف والحراك الإعلامي الرسمي الهادف إلى تشطير المجتمع، يدفعنا للتشكيك في مصداقية اليونسكو التي ترفع عنوان المساواة وتعزيز حقوق الإنسان ضمن اهدافها، كما يدفع للتشكيك في جدوى المشروع الذي يروج له بأنه يأتي ضمن تعميق الحوار الثقافي وتعزيز قيم التفاهم والتسامح واحترام الخصوصيات، فكل ما جري ويجري في البحرين يقف على مسافة بعيدة من هذه المعاني التي تتأسس عليها كل ثقافة حية، بل ويقف على النقيض منه، عبر إذكاء روح الطائفية بين مكونات المجتمع، وتهيئة الأجواء لتنامي صور الكراهية المتبادلة.
والحال أنه إذا ما استمرت الأوضاع السياسية على ما هي عليه حتى الرابع عشر من فبراير العام القادم فمن المرجح أن تكون للشارع الحصة الأكبر في الفعاليات الثقافية التي يصنعها في الهواء الطلق عبر حراكه السلمي، وعبر قنوات الميديا الحديثة، ليؤكد من خلالها أن المنامة عاصمة لثقافة النضال في الخليج وليس لسماسرة الدولار الثقافي، لتتهاوى عندها أحلام مؤسسات النظام الثقافية بترميم ما تبقى من صورة فاضحة لنظام يراهن في وجوده على غرائز العنف وليس على قيم العدالة والسلام.