حوار مع قلب ناصر الرس: صرخات الشهيد فخراوي مزقته، ودوار اللؤلؤة سكنه، وصعقات الكهرباء أهلكته
2015-03-07 - 2:00 م
تمرد قلبي عليّ
أنا العاشق السيء الحظِّ
نرجسة لي وأخرى عليّ
أمرّ على ساحل الحب
ألقي السلامْ سريعاً
وأكتب فوق جناحِ الحمام
رسائل منِّي إليّ..
محمود درويش
مرآة البحرين (خاص): الأطباء في مركز أبحاث القلب في العاصمة (أوتاوا) بكندا، أخبروا الشاب ناصر الرس قبل أسبوع من الآن، أن قلبه متعب جداً وفي مرحلة ضعفٍ شديد، وأن عليه الجلوس على الكرسي المتحرك ووضع أنبوب الأوكسجين قريباً من أنفه، وليستعد لعملية زراعة قلب جديد متى توافر ذلك القلب له!
لقد تمرّد قلبه عليه، صار أضعف من أن يسعفه على الحركة أكثر من 100م، لكنه لا يزال في كامل قوته حين يتحدث عن عشقه؛ البحرين في قلبه لقد احتار أطباء كندا وهم يحاولون فهم سر تردي صحة هذا القلب، حتى توصلوا في نهاية المطاف: إنه التعذيب عبر الصعق بالكهرباء!.
ناصر الرس شاب يبلغ من العمر الثانية والثلاثين يحمل الجنسية الكندية وهو من أصول كويتية، يسكن ناصر الآن في مدينة أوتاوا الكندية مع زوجته البحرينية وابنه. ذنب ناصر إنه تعاطف مع شعب البحرين، فدخلها في 7 مارس 2011 ناصراً، وخرج منها في 26 فبراير 2012 خائفاً، مطلوباً، مريضاً، معذباً، لكنه لم ينس أن يأخذ منها ما يبقى معه، فتاة بحرينية تزوجها ورحلت معه وأنجبت له ابناً جميلاً اسمه حسن.
يقول ناصر لمرآة البحرين: كنت في الكويت أثناء تفجر ثورة 14 فبراير في البحرين، وتفاعلت بشدة مع الثورة التي طلبت الحرية لنا جميعاً في هذه المنطقة، واستطعت الدخول للبحرين في 7مارس، وذهبت فوراً إلى دوار اللؤلؤة ومكثت هناك حتى اليوم الأخير، كانت وما تزال تلك الأيام أعظم ما لمسه قلبي في هذه الحياة، لا تمحى من قلبي وذاكرتي، لقد سكنت روحي هناك ولا تزال، رأيت ملاحم سطرها هذا الشعب العظيم، وبكيت شهداءه واحداً تلو الآخر ولا أزال.
ذهب ناصر إلى خيمة الإعلاميين في الدوار، وكان له دور هناك لخبرته في التقنية وتكنولوجيا المعلومات، ذاب ناصر في القضية حتى جاء اليوم الذي أعلن فيه ملك البحرين حالة الطواريء، فتغيّر كل شيء.
يقول ناصر: كانت أياماً سوداء، أسوأ ما يمكن أن يراه أي شعب، استباحة لا أظنها حصلت لأي شعب، كنّا نرى المساجد تُهدم بجرافات النظام، مسجداً تلو مسجد، والشهداء يتساقطون واحداً تلو الآخر.
كيف تم اعتقالك؟ يرد ناصر مبتسماً «عرفت أني صرت مطلوباً لجهاز أمن الدولة في البحرين في المطار، كنت أحاول الخروج من البحرين، وكانت المفاجأة أنهم اعتقلوني من المطار، لم يطل الأمر حتى عرفت أنهم يتهمونني بالمشاركة في قضية اختطاف شرطي وهي القضية المعروفة بقضة «هوزمان»!.
يواصل ناصر «تم القبض عليّ، وأخذوني لسرداب تحت المبنى الجديد لجهاز الأمن الوطني، وفي غرف التحقيق والتعذيب كان الموت، وأنا لا أمزح، فقد تمزق سمعي بصرخات الشهيد عبدالكريم فخراوي، كان الشهيد يتم تعذيبه في الزنزانة المجاورة لي، ما زال صدى صرخاته: يا الله.. يا الله، يتردد في أذنيّ، فجأة انقطع صوته، بعد لحظات أحسست بحركة غير عادية وارتباك كبير، لم يطل الأمر حتى عرفت أنهم قتلوه بحقد لا مثيل له..
يسكت ناصر قليلاً، يبكي دون صوت، تنزل دموعه، يجففها بيده ليضيف «ماذا أقول لكم عن جهاز الأمن الوطني وسراديبه».
نطلب منه الحديث عما شعر به وعاناه في تلك السراديب، يفتح ناصر باب الذاكرة «قصتي مع الحبس الانفرادي، تجربة لم أنسها لقساوتها وآثارها التي ما زلت أعاني منها إلى الآن، تم حبسي بسرداب القلعة التابع للأمن الوطني، إن أثر الحبس الانفرادي لا يمكن تصوره الا بالمرور بهذة التجربة المريرة، كنت طوال الوقت في عزلة تامة لا أُفرق بين الليل أو النهار، لم أكن أستطع معرفة الوقت أو حتى رؤية السجّانين، كنت أُجبر على لبس قناع أغلب فترات التحقيق والتعذيب».
يردف الرس «مرارة التجربة بجانب التعذيب الجسدي من ضرب بالأنبوب البلاستيكي «الهوز»، والصعق بالكهرباء، وباقي صنوف التعذيب تختلط مع الجانب النفسي، أحسست أن نهايتي قريبة بل مُحتّمة، زنزانتي بها إضاءة مركزة طوال الوقت، الأرضية مغطاة بغطاء بلاستيكي رقيق لإزالة آثار التعذيب، المكان مخصص ومهيأ للتعذيب بحرفية بشعة، صوت الباب يُضرب بقوة يجعلنا نقفز من الرعب».
يضيف «كنت وغيري نُجبر على سماع أصوات آخرين ممن يتعرضون للتعذيب، بشكل لا يوصف، مر على خاطري كل من عرفته في حياتي وصرت أقارن أصوات الضحايا معهم، أحيانا كنت ألجأ للبكاء والدعاء عسى أن ينتهي هذا الكابوس الفظيع، ولكن هذا الأسلوب يتكرر مع غيري حين كنت أنا أعذب، فتُعاد الكرة والألم يتكرر بحيث يصل الضحية إلى حالة من عدم الاتزان واليأس من الحياة، نتيجة هذا التعذيب النفسي كنت أفكر أحيانا بإنهاء حياتي لو كنت أقدر».
يصمت قليلاً ليقول «بجانب التعذيب الجسدي كنا نعذب في غرف خاصة بالتعذيب، وأحيانا وبطريقة همجية كانوا يعذبوننا في غرف الحبس الانفرادي نفسها، لا نعلم من يفتح باب الزنزانة وبعدها يهجم علينا بوحشية، كنّا في الظلام».
يبتسم ناصر «هل تعرفون أنني في لحظة من لحظات التعذيب الشرس الذي مورس بحقي، كنت أضحك في سري؟!»، كيف ذلك؟ يجيب: «حين كان الجلاد يعذبني بشراسة وحقد، وصلت حينها لمرحلة أضحك بداخلي، نعم لأني كنت أشعر برضا داخلي، رضا لأنني مع هذا الشعب وأعيش آلامه، أن أكون مسانداً للأم العظيمة وأعني أم الشهيد علي مشيمع، التي أثرت فيّ تماما، كنت أفكر فيها وإنا قابعٌ في زنزانتي، هذه الأم العظيمة التي تحدثت معها في دوار اللؤلؤة وأتذكر أنها أعطتني حبّات من الفراولة، وحين عرفت أني غريب عن البلاد، دعتني إلى النوم على فراش ابنها الشهيد علي مشيمع، قالت: تعال لتنام فوق فراش ابني الشهيد، لن أنسَ هذه المرأة ما حييت».
بعد 31 يوماً تم الإفراج عن ناصر الرس وتحديداً في شهر أبريل، لينتظر محاكمته أمام المحاكم العسكرية، يكشف ناصر الذي حصل علي الجنسية الكندية في العام 2000 بعد أربع سنين من وصوله لكندا: «في الأساس أنا مريض، لديّ تضخم في القلب، وتعرضت لجلطات أصابت رئتي، ومنذ اعتقالي لم أحصل على أدويتي، وبعد خروجي لم يكن لديّ أي اثبات لهويتي، فقد احتجز جهاز الأمن الوطني جوازي وكل أوراقي الثبوتية، فصرت أشبه باللاجئ في البحرين، ولم يكن في مقدوري الذهاب لأي مستشفى لأن لا أوراق ثبوتية لديّ، إضافة إلى أن حركتي كانت محدودة بفعل الوضع الأمني الرهيب، كان هناك مجموعة من منظمة أطباء بلا حدود جلبوا لي أدوية لفترة محدودة، قبل أن يعثر النظام على مقرهم ويقوم بترحيلهم».
تم استدعاء ناصر الرس للحضور كمتهم أمام المحكمة العسكرية التي شكلها الحاكم العسكري حينها المشير خليفة بن أحمد ومجلسه العسكريّ الذي يضم قائد خلية البندر الوزير أحمد عطية الله.
يسرد ناصر تلك المرحلة «كنت أحضر المحكمة العسكرية، وأنقل للنشطاء ما يخبرني به بعض الرموز عن أوضاعهم وما يتعرضون له من الضرب، أتذكر مرة في المحكمة العسكرية، أحضروا النائب السابق جواد فيروز المعتقل حينها، كان ينتظر إدخاله للقاضي، والجوّ حار، فأجبروه على الجلوس علي حديد حار بفعل حرارة الشمس، ومرة أخرى تم إجبار مصطفى المقداد على الجلوس تحت الشمس الحارقة، بينما كان أبوه الشيخ عبدالجليل المقداد ينظر له من خلف زجاج معتم في الغرفة المقابلة».
ماذا حصل بعد ذلك؟ يجيب الرس «برّأتني المحكمة العسكرية من تهمة اختطاف هوزمان، لكن جهاز الأمن الوطني لم يتركني، فقد تفاجأت بأنني متهم في قضية أخرى، رتبوا لي قضية أخرى أمام المحاكم الجنائية، كان يحاكمنا فيها قاض لصق على باب غرفته الداخلية في المحكمة صورة رئيس الوزراء خليفة بن سلمان، فماذا كان يرتجى من عدالة حينها».
ماذ كانت التهمة؟: «التجمهر، وإشاعة اخبار كاذبة من خلال المركز الإعلامي في الدوار كوني خبيراً تقنياً، وتم الحكم ضدي بالسجن لمدة خمس سنين، لكني لم أسلّم نفسي واختفيت عن الأنظار لمدة خمسة أشهر، بعدها ذهبت القضية إلى محكمة الاستئناف، وهناك كان القاضي ابراهيم الزايد، حضرت الجلسة وكان القنصل الكندي موجوداً، وقدم المحامي السيد محسن العلوي مرافعته وطلب الإفراج عني، فطلب مني القاضي الكلام إن كان لديّ ما أود قوله، فقلت له إنني مواطن كندي وأريد جواز سفري، وقلت إنه لا يحق لكم أخذ جوازي، فرفع القاضي الجلسة فجأة، وبعد قليل دخل الشرطة للقاعة وقبضوا عليّ ووضعوا القيود في يدي، ورحّلوني للسجن رقم واحد في سجن جوّ المركزي، وهناك قال لي ضابط انت محكوم لمدة 25 عاماً فلقت له حكمي مدة خمس سنين، فردّ: لا أنت محكوم 25 سنة، وأدخلوني عنبر الاحكام الطويلة، هناك رأيت رئيس جمعية المعلمين مهدي ابوديب وكان حكمه لم يُخفض بعد، وكنت في الزنزانة معه، أنا في القسم العلوي من السرير وتحتي ينام ابوديب، أتذكّر أنه كان يئن ليلاً من الآلام التي لاقاها في التعذيب، وكنت أحاول عمل مساج لجسده لعل آلامه تخف، هناك أيضاً رأيت الشيخ محمد علي المحفوظ، وكان في زنزانة ليست بعيدة، اثنين من المعتقلين في الانفرادي، عرفت أنهما كانا محكومين بالاعدام، أحدهما المعتقل علي الطويل».
يقول ناصر «لم ألبث طويلاً في سجن جوّ فقد تم الإفراج عني في اليوم الثاني من شهر يونيو 2012، خرجت وأدليت بشهادتي للجنة بسيوني عن مقتل الشهيد فخراوي تحت التعذيب، وصرت أحاول الخروج من البحرين، فقد تأخرت في الخروج وكنت خائفاً من تدهور وضعي الصحي».
يردف «تأخرت في الخروج من البحرين، حتى بعد حصولي على جواز جديد وفرته لي كندا، كانت هناك ضغوط من منظمة العفو الدولية فرع كندا، الحكومة الكندية التزمت دبلوماسية هادئة مع حكومة البحرين وربما هذا أحد أسباب تأخر خروجي، لم تعطني حكومة البحرين حواز سفري، فأصدرت لي كندا جواز سفر جديد خرجت من خلاله من لبحرين في 26 فبراير 2012».
ماذا يفعل الآن ناصر الرس في كندا، يجيب بهدوء «رغم وضعي الصحي، فإنني ادرس في جامعة كارلتون، وذلك للحصول على شهادتي بكالوريوس مرة واحدة، في تخصصيّ حقوق انسان وقانون، وزوجتي تدرس في الجامعة أيضاً، هي رفيقتي في هذه الحياة، وأنا لا أزال رغم كل شيء قويّاً ولم أضعف».
يضيف «لست ضامنًا عمري، لكني لست خائفاً، وإذا رحلت من هذه الدنيا فكل ما أتمناه هو أن أترك أثراً»، يتنهّد بعمق ليقول «بودي أن أرفع هذا الظلم الذي رأيته في البحرين».
يقول: الطبيب قال لي إنه لم يقرر زراعة قلب لي، إلا بعد ان أصبحت حياتي في خطر، قلبي صار وضعه خطيراً، حياتي فعلا في خطر. لا استطيع المشي أكثر من 100 متر لأن قلبي ضعيف، لذا طلبوا مني عدم بذل أي جهد، واستخدام كرسيّ متحرك، ووضع أنبوب الأكسجين بشكل دائم».
يبتسم ناصر «قبل ثلاثة أيام بلغ إبني حسن من العمر عاماً كاملاً، أنا أفكر في وضع أسرتي الصغيرة، ولا زلت أفكر في البحرين».
لا زلت تفكر في البحرين رغم كل ما جرى؟، يرد ناصر «أتابع أوضاع البحرين يوميًا، لقد سكنت البحرين وشعبها قلبي، بعض الأحيان أستيقظ من النوم وأفتح موقع تويتر لأرى ما حدث، أتابع بشكل أساسي موقع مرآة البحرين، وحساب نبيل رجب، وحسابات المناطق خصوصاً حساب منطقة الدراز التي عشت فيها ورأيت صمود أهلها وعرفت طيبتهم».
يختم ناصر الرس لقائه بالمرآة «لن أكون ضعيفاً، لن يرى الذين عذبوني وظلموني ضعفي أبداً، أنا قويّ بمن حولي، قويّ بكم، البحرين ستنتصر وتخرج من محنتها».
- 2018-11-21الفائزة بجائزة منظمة التعليم الدولية جليلة السلمان: سياسات التربية منذ 2011 هي السبب الأكبر وراء تقاعد المعلمين!
- 2018-05-17الموسيقي البحريني محمد جواد يفكّ لغز "القيثارة الدلمونية" وينال براءة اختراعها
- 2017-10-03مترجمات «ما بعد الشيوخ» في حوار مع «مرآة البحرين»: كان الهدف أن نترجم ثقل الكتاب!
- 2017-10-03«مركز أوال للدراسات والتوثيق» في حوار مع «المرآة»: كتاب «ما بعد الشيوخ» طبع 6 مرات رغم تزوير الترجمة من جهات أخرى
- 2017-10-03فؤاد الخوري ليس كأيّ كتاب... مروة حيدر: رسالة "دعوة للضحك" وصلت… أنا مترجمة تبتسم!