المستحيل ... ممكن
2012-02-05 - 6:53 م
عادل مرزوق*
"ليس هناك من معنى لأن نكون منفتحين على فرضية لا نفهم منها شيئاً" كارل ساغان.
الطريق من توبلي مروراً بالسلمانية ودوار اللؤلؤة إلى مجمع سيتي سنتر. خط السير اليومي لزوجتي إبان فترة تعليمها قيادة السيارة. اجتياز دوار اللؤلؤة أكثر ما يربكها. وكان شرط السماح بقيادتها السيارة بمفردها مرهوناً بعبورها الدوار دون ارتباك أو قلق. في الحقيقة، لم يخطر في بالي حينها، أن عبور هذا الدوار سيكون رهان مستقبل البلاد بأسرها!
في الوصول الثاني لدوار اللؤلؤة، كنت والزميل حسين مرهون من أوائل الواصلين، انسحاب مجنزرات قوة دفاع البحرين وقوات وزارة الداخلية خلّف وراءه الأسلاك الشائكة التي كانت تحيط بالميدان. وفيما كان المتظاهرون يحاولون نزع الأسلاك للمرور وفتح الطريق لباقي المتظاهرين، لم يبال آخرون بما ستتركه تلك الأسلاك على أيديهم وأرجلهم من إصابات وجروح، أتذكر ذلك التدافع، كانوا دون وعي، يتسابقون دون أن يلاحظوا أو يكترثوا للدماء التي كانت تنزف من أجسادهم بالفعل.
دماء الضحايا من الهجوم الأول على الدوار تصبغ العشب الأخضر بلونها الأحمر. هنا، وهناك، كان كل حبيب يبحث حيث شربت هذه الأرض دماء حبيبه. لم يستح أحد من البكاء. كل من يصل إلى الدوار كان يسقط باكياً، أو مغشياً عليه. لم يكن للسياسة في تلك اللحظات أي حضور، لم يطلب أحد من المتظاهرين إصلاح النظام، أو إسقاطه، كانت لحظات تاريخية بالفعل، لحظات من نوع خاص، هو إحساس الكرامة والحرية الذي تذوقه الناس بلهفة. تسابق الجميع في استنشاق تلك النسمات الرقيقة من ريح الحرية. عشر دقائق من البكاء والنحيب. التقطت صورة للذكرى، وأرسلتُ تغريدتي على تويتر، كانت ولا تزال أثمن ما كتبته بالنسبة لي: "هذه الأرض أرضي، أقف عليها وقت ما أشاء، كيف ما أشاء".
كان لا بد من سرد هذا المشهد الذي لا يزال يستوطن ذاكرتي لأفتتح به هذه المقالة عن حصاد الثورة. هي لحظة – بالنسبة لي - من أدق اللحظات وأكثرها دلالة ضمن مجمل الأحداث التي عايشتها أيام الثورة. لن يعود هذا الشعب لما قبل الرابع عشر من فبراير من العام 2011 دون إنجاز يحتفي به، لن يعود ليقتات من المواطنة الناقصة/المواطنة المنحة/ المواطنة المؤقتة. لن يعود هذا الشعب لفضاء "الممكن". الشعب بات "يريد"، وشتان بين ما تصنعه الشعوب بـ "الإرادة"، وما قد يتيحه "الممكن" في السياسة.
لم يكن عبور دوار اللؤلؤة من "الممكن"، لم يكن الاعتصام في الدوار من "الممكن"، لم يكن الاعتصام قبالة قصور الحكم من "الممكن"، لم يكن تحمل ثلاثة أشهر من الظلم والقهر والقتل والجرائم والانتهاكات لحقوق الإنسان من "الممكن"، لم يكن الكثير مما أنجزته هذه الثورة من "الممكن"، كل ما كان هو استثنائي حقاً. وعليه، الذي لا يمكن أن يكون "، ممكناً" هو أن ينتهي هذا الفصل من تاريخ هذه الشعب العظيم دون انتقال ديموقراطي حقيقي، يؤسس لمستقبل جديد يكسر فضاءات "الممكن" كلها.
استنفدت الدولة كل ما لديها من علاقات وقدرات وفبركات وألاعيب سياسية، ولا يزال شباب الرابع عشر من فبراير، لا يزال أبناء وبنات هذا الشعب، يبدعون في احتجاجاتهم وطرقهم السلمية في التظاهر والاحتجاج لتجاوز هذا الحصار. أخطأت الدولة في حساباتها، اعتقدت أن العصا كفيلة بكسر إرادة هذا الشعب وإعادته لمنطقها هي، إرادتها هي، منحها هي، أكاذيبها هي، الممكن الذي تعرفه هي.
ختاماً، فلنسأل بصدق: ما حصاد هذه الثورة؟، أعتقد أن أثمن ما استطعنا حصاده من هذه الثورة في عامها الأول هو المعرفة أولاً، والإرادة ثانياً. عرفنا أن الدولة التي نعيش فيها ليست أكثر من أكذوبة كبرى، عيدها الوطني أكذوبة، مواطنتها أكذوبة، دستورها أكذوبة، قوانينها أكذوبة، قضاؤها أكذوبة، وزراؤها وهياكلها أكذوبة، مؤسساتها أكذوبها، إعلامها أكذوبة، مجلسها النيابي أكذوبة، مشروعها الإصلاحي أكذوبة، ديمقراطيتها أكذوبة. عرفنا أن ما عشناه لعشرة أعوام كان أكبر أكذوبة صدقناها. عرفنا - وبما لا يدعو للشك - أننا نكتب أكبر حماقاتنا إن قبلنا بتسوية منقوصة او مؤجلة نأمل لها أن تكبر أو أن تتطور مع الوقت. عرفنا أن هذا النظام لن يتردد في العودة لديكتاتوريته وهمجيته إن تركنا له باباً واحداً إليها.
حصادنا الثاني هي ثقتنا بـ "إرداتنا" التي اختبرها النظام بعسكره المسعور وإعلامه الكاذب فكانت رهاننا الكبير، والرابح. اليوم، عرفنا ماذا نريد، وكيف نريد. هتفنا بأصواتنا وقلوبنا "الشعب يريد"، واختبرنا النظام في هذه الإرادة: في قوتها، في ثباتها، في صمودها، في تحملها لهمجية السلاح والمرتزقة المجرمين، في وفائها للراحلين المضحين بأرواحهم ودمائهم. اجتازت إرادتنا الاختبار. كسرت إرداتنا في الحياة إرادة النظام في الموت، طوقت إرادتنا التواقة للحرية إرادة النظام في إبقائنا رازحين تحت نار العبودية والذل.
الشعب يريد حريته، يريد كرامته، يريد مواطنته على هذا التراب كاملة، يريد إنسانيته المسلوبة وحقوقه غير منقوصة أو مجزوءة. يريد أن يرفع عن رقبته حبال الطائفية وأثقالها، يريد ثرواته التي سلبت منه لعشرات السنين، يريد أن ينجز مشروعه المدني ودولته الديمقراطية. يريد أن يرسم في قلب الخليج العربي حلمه القديم ليراه العالم شعباً أصيلاً حراً موغلاً في الحضارة والمدنية، يريد أن يدق أجراس الديمقراطية، ليتلو نشيده الجميل في الرابع عشر من فبراير من كل عام، وفاءً للمضحين والشهداء من أبناء هذا الوطن الكريم.
*كاتب بحريني