المفارقة:1995: الشعب يريد النظام.. 2011: الشعب يريد إسقاطه النظام
2012-02-05 - 6:58 م
عباس بوصفوان*
في هذه العجالة، ضمن ملحق يقارن بين أحداث التسعينات وأحداث ما بات يعرف بثورة/ انتفاضة/ حركة اللؤلؤة، أود الإجابة عن سؤال مركزي: لماذا خرج الناس بجل أطيافهم وطبقاتهم على هذا النحو غير المسبوق في حدث 14 فبراير 2011، في حين لم تنخرط القطاعات المختلفة والطبقة الوسطى والتجار وعموم النخبة بهذا الزخم في أحداث التسعينات.
هناك أسباب كثيرة بالطبع، تتعلق بالتغيرات الدولية والإقليمية، والتطور الإنساني، وثورة الاتصالات والميديا، والسياقات التاريخية والربيع العربي، ووجود المعارضة الرسمية على الأرض، وخبرتها الكبيرة بالنظام، والتشكيلات الشبابية التي فاجأت نفسها والجميع، إضافة إلى الدور الاستثنائي للمرأة والطبقة الوسطى والتكنوقراط الذين أسميهم عقل الثورة.. كل تلك النقاط وغيرها لعبت دورا ساحرا في انطلاق الحدث، فيما فرضت المعالجة الأمنية العنيفة والتطهيرية استمراره وتطوره.
لكن النقطة التي أرى وجوب التأكيد عليها مرة أخرى، والتي أظن أنها أكبر محفز للثورة، تتعلق بالفارق الجوهري بين الحكم إبان عهد الأمير الراحل عيسى بن سلمان آل خليفة، والملك الحالي حمد.
ولضيق المساحة، سأكتفي بسرد الفكرة الرئيسية التي أراها تعطي تفسيرا للخروج العارم.
تتلخص هذه الفكرة في أن الإقصاء الكلي، أو الشعور بالإقصاء، لدى القطاعات الشعبية، والمؤسسات المدنية والعمالية والحزبية والتجمعات التقلددية/ العائلية/ القبلية والدينية، خلال مرحلة حكم الملك حمد، خلق ردة فعل راغبة في ممارسة إقصاء شبيه لآل خليفة من المشهد السياسي.
وتجلت الرغبة الشعبية في الإقصاء من خلال شعارين اثنين:
الشعار الأول: الشعب يريد إسقاط النظام، أو المطالبة بالجمهورية أو يسقط حمد.
الشعار الثاني: يتمثل في الدعوة إلى تشكيل ملكية دستورية.
وفي الحالتين يحضر تقليص أو إلغاء صلاحيات العائلة الحاكمة في جوهر الحركة المنادية بالتغيير والديمقراطية.
وعند مقارنة ذلك بحركة التسعينات، فإن الانتفاضة المطلبية حينها دعت للشراكة على أساس دستور 1973، الذي يبقي آل خليفة الرقم الأساس في المعادلة السياسية.
وجاءت تلك الحركة ردا على التهميش (وليس الإقصاء) للقطاعات المختلفة، في عقود الثمانينات والسبيعات والتسعينات.
ويمكن ملاحظة الفارق بين سياسية التهميش التي اتبعها الحكم إبان عهد الشيخ عيسى، وسياسة الإقصاء والتطهير التي اتبعت في العقد الأول من القرن الجديد، في النقاط التالية:
• التطهير
لم يجعل تقرير البندر مجالا للشك في رؤية الملك حمد الإقصائية لقطاعات واسعة من المواطنين، وحرمانها من فرص العيش الكريم والترقي وتحقيق الذات.
ولا بأس الآن من القول بأن كاتب هذه السطور تسلم نسخة من التقرير قبل نحو 6 أسابيع من طرد المستشار صلاح النبدر من البحرين. كانت لحظة مخيفة جدا.. وقد اتضح سريعا عدم قدرة القوى السياسية على استثمار ذلك التقرير الخطير، في لحظة سبقت الانتخابات النيابية 2006، فقرر كاتب هذه السطور تسريب التقرير إلى جهة لتقوم بتوزيعه على النطاق الذي تم.
ذلك كان تاريخا، ويهمني الإشارة إليه كي أُقوم بتعرف التقرير في كلمات قليلة، بحسب ما أفهمه من خلال اللقاءات التي كانت جمعتني مع كاتبه في شقته في منطقة السيف.
لقد وُضع تقرير البندر بعد دراسة التجربة الشيعية في البحرين. والتي خلصت إلى أن قوة المعارضة الراهنة تعود إلى: وجود مرجعية دينية مؤثرة، وسيطرة معارضة شبه كاملة على مؤسسات المجتمع المدني، وزخم النشاط الشعبي الاجتماعي المعارض، وانخفاض الصوت الموالي إلخ.
وضع التقرير خطة عمل من أجل تقليد ذلك النموذج القادر على الوقوف ضد للسلطة، فاقترح تشكيل مرجعية دينية سنية موالية، وتأسيس جمعيات أهلية/ مدنية قريبة من الحكومة، وتشجيع الأصوات التحشيدية للجماعات الموالية، وإنشاء صحيفة الوطن، ومنتديات الكترونية، وزيادة البعثات الدراسية للموالين من خلال وزارات الدفاع والداخلية إضافة إلى التربية، وزيادة معدلات الزواج، وخطوات أخرى كثيرة، تمتد إلى زيادة مساحة السيطرة على قطاع الخدمة المدنية والشركات الكبرى والقطاعات التجارية والاقتصادية.
باختصار، السعي للسيطرة على الفضاء العام، بما هو أبعد من السطيرة على السلطة التنفيذية والقضائية والتشريعية.
في الواقع، فإنه بينما سارت السلطة في نهج الإقصاء الكلي الممنهج والمعبر عن حالة عداء سافرة، وعالية الدرجة لقطاعات واسعة من المواطنين، فإنها توقعت ثورتهم، لذا استعدت لذلك، وكان تجمع الفاتح تجربة عملية لما حققه التقرير من نتائج نحو تأسيس تيار مضاد للمعارضة.
الخلاصة، أنه في عقود السبعينات والثمانينات والتسعينات لم يشعر الناس بأن حاضرهم ومستقبلهم مسدود ومهدد كليا، لذا ثاروا ضمن حدود. لكنهم في السنوات الأخيرة راودهم الحلم السلبي، بأن الذهنية الحاكمة في الرفاع لا تنوي خيرا بمستقبلهم ومستقبل عيالهم فصرخوا من "قمة رأسهم": الشعب يريد إسقاط النظام"، وليس الشعب يريد النظام ودستور 1973، كما في ديسمبر 1994.
• الدستور
حافظ الشيخ خليفة بن سلمان، الذي كان الرجل القوي في عهد أخيه الأمير عيسى على دستور 1973.
بالطبع لم يكن يطبقه، بيد أنه لم يتجرأ على الغائه. وحتى عندما تم تشكيل مجلس الشورى المعين، فإن التخريجات الدستورية لم تكن لتلغي البرلمان الدستوري (المجلس الوطني)، فيما كان رد المعارضة أنه يمكن للحكم تشكيل مجالس شورية للنصح، لكنها ليست بديلا للمؤسسسة التمثيلية المنتخبة.
بيد إن قيام الملك حمد بتغييرات دستورية من طرف واحد، وإعلان نفسه حاكما مطلقا، خدش كثيرا اللعبة السياسية القائمة، حين بدا أن الملك يريد صراحة صيغة لا يكون للشعب فيها رأي ولا تأثير. وبذلك تم الانتقال من مرحلة التهميش المخالف للدستور المكتوب، إلى إقصاء يقره دستور 2002!
• التشكيل الوزاري
يعبر التشكيل الحكومي، عموما، عن رؤية رأس الدولة لطريقة الحكم في البلاد وتوازناتها. ولم يكن مجلس الوزراء ذا أهمية في الحكم في الفترة من 1975 إلى 1999، بل كان رئيس الوزراء هو الذي يقرر، ومع ذلك اتخذ التأليف الوزاري طابعا يوصف بالتوازن، ثلث من آل خليفة، وثلث من السنة، وثلث من الشيعة.
قد يقال هذه محاصصة، وهذا صحيح، الصحيح أكثر أن ذلك لم يغير من معادلة السلطة التي تحتكرها العائلة الحاكمة، بيد أن المحاصصة، كفكرة سياسية، قريبة من معادلة الديمقراطية، التي هي أقل أنظمة الحكم سوء، وهي كالتصويت الذي "يقسم" الجمهور، بدل توافقه.
المحاصصة، ضمن ضوابط أخرى، قد تحفظ استقرارا البلاد. إن كسر الصيغة الشكلية للمحاصصة، مع مجيء الملك حمد، أدى إلى ما رأيناه في 14 فبراير 2011، حين كان الوزراء الشيعة ثلاثة من أصل نحو 23 وزيرا، ثمانية منهم من السنة، والباقي من آل خليفة.
إنه شكل فاقع للإقصاء، إقصاء النخبة هذه المرة، التي انخرطت هي الأخرى في حدث 14 فبراير، مؤيدة الرغبة في إحداث إصلاحات حقيقية في مؤسسة الحكم مادامت غير مستفيدة منها.
• التجنيس
التجنيس سياسة ليست جديدة، لكنها ظلت تتبع بحذر قبل تسلم الملك حمد الحكم. والذي اعتبر التغيير الديمغرافي جزءا من أولوياته ضمن رؤية غير خافية الآن بأن الشيعة خطر استراتيحي على النظام ينبغي تطهير المؤسسات المدنية والعسكرية منهم.. ضمن نظرية تجفيف الينابيع، التي تشمل التجهيل والإفقار وسحب أطر النفوذ.
وبدخول مرتكزات "الحرب الشاملة" ضد الناس، فإن الشعور الشعبي بالإقصاء يبلغ مديات غير مسبوقة، تجلت بين 14 فبراير ومنتصف مارس، ومازالت واضحة.
تلك النقاط، ضمن نقاط أخرى مهمة، دفعت بالجمهور بأن "يخرج من ثيابه"، مطالبا بالتغيير والخلاص من حكم تجاوز خطوطا ظلت حمراء عقودا طويلة.
وإذ يبدو الملك مركز هذه السياسة غير المسئولة، فقد تحول الشعار الشعبي الأكثر تداولا: يسقط حمد بدل تنحى يا خليفة.
وذلك بحد ذاته فارق بين الخطاب المعارض في التسعينات، الذي لم يوجه نقدا إلى رأس الدولة الأمير عيسى بن سلمان إلا نادرا جدا جدا، وتركز الجهد على انتقاد رئيس الوزراء.
أما حاليا، فإنه رغم الجهد الخارق الذي يبذله الخطاب المعارض لعدم انتقاد الملك حمد، فإن الشعور يتنامى يوما بعد آخر بأنه (الملك حمد) في جزء من الأزمة، بل جوهرها.
وبصراحة، فإن ذلك يزيد من التحديات التي تواجهها البلاد، ويضاعف من أحمال الحركة المطلبية، ويحد من قدرة عائلة آل خليفة والإقليم والغرب على التغيير.. إذ كيف يمكن الخروج من أزمة مَن بيد جزء كبير مِن مفاتيح حلها هو جوهرها؟
تلك الإشكالية لا تواجه الملك عبدالله والحركة المطلبية في الأردن، ولا تواجه الملك محمد السادس في المغرب، والأمير صباح الأحمد في الكويت.
في تلك البلدان لا يرتفع شعار الإسقاط لرأس الدولة، في حين يرتقع بقوة في البحرين.. مما يستدعي أن يسأل الملك حمد نفسه: لماذا؟
ولا أدري إن كان الجيل الجديد يعرف أن الشيخ عيسى بن علي أطيح به في العشرينات من القرن الماضي بعد لجنة تحقيق بريطانية، أظهرت انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان وفسادا في مؤسسة الحكم.. ولست متأكدا إن كان الملك سيتعض، بيد أن المحكومين يجدر بهم أن يدركوا أن تغيير الحاكم في 1923 لم يغير شيئا!. لأنه غير أشخاص ولم يغير بنى.. وأظن أن التركيز على الدستور في التسعينات كما الآن في محله، بيد أنه سيكون خطأ استراتيجيا نسيان مراكز القوى الأخرى في الصراع، وأبرزها المورد البشري الذي يجدر دائما الحرص على تنميته.
*صحافي بحريني.