استبداد النّظام: حكاية فشل
2012-02-05 - 8:52 ص
نادر المتروك*
في الإستراتيجيا ونظريات الحُكم -كما في الوجدان الشّعبي- خسر النظام الحاكم في البحرين المقوّمات المعتبرة لأية شرعية في إدارة البلاد. أسوأ ما في كلّ ذلك، أنّ النّظام تلبّس لباساً كلّه الخداع وتقطيع الوقت، ولم يُقدِّم طوال الأشهر الماضية حلاً سياسياً مقبولاً لإنقاذ الوطن، وتلبية طموحات النّاس. أعطى ذلك انطباعاً متكرّراً، مفاده أنّ النظام لا يسعى لمصلحة النّاس، وأنه كان دائماً في وارد البحث عمّا يحفظ امتيازاته في تحصين الاستبداد وتمديده.
أوافقُ على أنّ هذه الخلاصة السّياسية كانت حاضرةً قبل 14 فبراير، ولكنّها قبل هذا التاريخ لم تحظ باختمارٍ وإجماع بين اتجاهات المعارضة، كما أنّها –الخلاصة- لم تكن شديدة الوضوح، وما كانت مُعزّزة بأكبر عملية توثيق في تاريخ البحرين السّياسي، مثلما هو الحال بعد تلك القطيعة الزّمنية. وعليه، بات النظام اليوم أمام كومةٍ ملعونة من الإخفاقات، وليس مُتاحاً –كما السّابق- المناورة عليها وإجراء التعديلات طمعاً في العودة إلى مربعات الصّفر الأولى.
ببساطة، لقد تهاوت عملياتُ التحايل والمراوغة، واحدةً واحدة. وسائل الاحتيال والكذب باءت بالفشل الكامل، وعلى مرأى من العدوّ والصّديق. إنه مسلسلٌ متوال من الفضائح والفكاهيات معاً. لنتذكّر، مثلاً، روائح الخيام المحروقة في دوّار اللؤلؤة، وكيف احتشد حولها الجميعُ في الشاشة "العورة"، وأرسلوا على الملأ الحرائقَ ودعوات الاجتثاث. عفْطةُ العنز، والأميرُ الخارق، وبائعاتُ الرّوث، كلهم زايدَ بعضهم بعضاً لإسقاط "الطّوفة" على رؤوس الأشهاد. كان النظام يتابعُ المشهد باستمتاع حذر، لأنه يتحسّسُ قبل غيره لحظةَ الانتهاء السّريع لبطارية الدّمى المتحرّكة.
وبالتوالي: الإعلام المحلي تحوّل إلى مادة إضحاكٍ للأهالي. وزارة الخارجية هُزمت سلفاً عندما برّرت تدمير نُصب اللؤلؤة وتدخُّل الجيش بمبرّراتٍ أقلّ ما يُقال عنها بأنها شنيعة. وهكذا دواليك، عُرّيت حفلات الرّشى في الداخل والخارج، كما انفضحت المافيا المكارثيّة التي عاثت الفسادَ والأحقاد في الوزارات والمؤسّسات. في فترةٍ وجيزة، قدّم النّظام شواهد غير مسبوقة لإثبات أنّه ليس بصدد بناء دولة حديثة تجمعُ كلّ المواطنين. يقولون إننا أصبحنا بين يدي عصابات مجنونة. وأقول إنّه نهوضٌ دفين لموروث القبائل.
في المحصّلة، أُصيب النّظام بطلقتين قاتلتين: الخسران المبين للشرعيّة الدّستوريّة، والإخفاق المرير في بناء الثقة المتبادلة مع الشّعب ومكوّناته المدنيّة، أي اضمحلال الشرعية الشعبية أيضاً. والمطلوب الآن، إمعان النّظر في ملامح الخطّة التجميليّة المراوغة التي عوَّل عليها النظام لإضفاء النعومة على بنيته الاستبداديّة، وتوفير مناخات التّسويق لها، وكيف أنّ رياح 14 فبراير حوّلتها إلى رميم.
خلال السنوات الماضية، عمل النظامُ البحريني على تحديث الحكم التّسلطي القائم، وليس إصلاح منابع الاستبداد وإزالتها. ولم يكفّ عن هذه السّياسة في الأشهر الماضية (ليست لجنة بسيوني-مثلا- الوسيلة الأول في ذلك، ولن تكون الأخيرة). وبحسب الباحثين، فإن هذه الظاهرة سارعت إليها بلدانٌ عربية كثيرة في العقد الأخير، وتحديداً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بغية إعادة التموضع في المناخ الدّولي الجديد الذي رفعَ شعارات الحرّية والديمقراطية.
سيكون مهمّا الاستفادة من الباحث الأمريكي ستيفن هايدمان والذي يملك خبرةً واسعة في تحليل الأنظمة التّسلطية، وهو أحدُ المدركين جيداً لأثر الأحداث الجارية في البحرين على الخريطة الإقليمية. يضع هايدمان أربعة عمليات تستخدمها نظم الاستبداد في إسباغ التطوير الخادع عليها. وهي:
• الاستيلاء على المجتمع المدني واحتواؤه
• إدارة عملية الاعتراض السّياسي
• حيازة فوائد الإصلاح الاقتصادي
• تنويع الرّوابط الدولية.
تصلح السلطة في البحرين لتكون دليلا ناجحا على إخفاق نموذج "تطوير الحكم التسلطي". فقد استعملت الإجراءات الأربعة جملةً وتفصيلاً، وبكلّ طاقتها في الجذب والإكراه. إلا أن النتيجة في خاتمة المطاف –وتحت تأثير سخط اللؤلؤة- كانت مزيداً من التهاوي وفقدان الاحترام والمصداقية.
عندما لمست السلطةُ،قبل سنوات قليلة، خطرَ التنظيمات السّياسية، سارعت لفرض قانون الجمعيات، وبذلك تحوّلت الأخيرة إلى مراكز نفع عام، لا قدرة لها ولا حرية حقيقيّة. تبع ذلك، وسبقه، خطوات عديدة في تقويض المجتمع المدني، والاكتفاء بمظاهر شكليّة على طريقة "الكونغو". أُغلقت جمعيات، وهُدّدت أخرى، وتولّى النظام تجنيد أتباعه للسيطرة على جمعيات مهنية مختلفة. والأمثلة كثيرة. هذه الخطوة، رغم تداعياتها الخطرة، لم تربح السلطة الوقت الكافي للاستمتاع بخيراتها طويلا. وكانت ثورة 14فبراير سبباً أساسياً في ذلك. فقد خرجت الجمعيات والنقابات عن الطوْق، وإلى حدودٍ تجاوزت السّقوف التقليديّة، وهي تواصل اليوم جدالاً محتدماً لانتزاع دورها المستقل وكامل الصلاحيات. فشل النظام في الاحتواء إذن.
من بين أسوأ الأدوار التّسلطيّة للنظام هو دخوله المباشر وغير المباشر في إدارة عمليات الاعتراض السّياسي. كانت إدارته تقوم على الكبح (العين الحَمْرة)، والتّقنين، وإثارة المخاوف (الطائفية خصوصا)، والإشغال بالملفات الجانبيّة، واقتراح البدائل الملغومة. أمّلَ النظامُ نفسَه حصْر العملية السّياسية في حدودها الدّنيا، وبنحو لا تُشكّل تهديداً لمخزون النظام الاستبدادي، وتُعطي في الوقت نفسه انطباعاً موهوماً بانفتاحه الديّمقراطي وعزْمه على الإصلاحات. إجهاض الفعاليات التي ترفع الصّوت وتخييرها بين القمع أو التدجين، إجراء القوانين سيئة الصّيت (قانون الجمعيات، قانون المطبوعات، قانون العقوبات..)، حيثيات تقرير البندر، المداولات الممسرحة في البرلمان، وبرمجة عمل ال (إنْ دي آي).. أراد النّظام من كّل ذلك أن يهيمن على المعارضة بالريموت كونترل، ويُحدِّد اتجاهاتها وأجندتها وشعاراتها. لاشكّ أنه استطاع، وبشكل ما، تنعيم المعارضة وتليينها، وزجّها في أتون العبثيّات، وهو الرّابحَ الأكبر من معاركها العابرة. لكن، وفي أشهرٍ معدودات من ربيع البحرين؛ تبخّر حصادُ العشريّة الغادرة وبلمْح البصر.
تملك العائلة الخليفية عصب الاقتصاد. يمنحها ذلك القدرة الفائقة على التحكّم بالولاءات، وإخراج اللاعبين غير المرغوبين. إنه الفانوس السّحري بالنسبة للنّظام، وبسببه خيّم الاطمئنان لديه والشّعور الدّائم بالاستقرار. إضافة إلى الاحتجاجات ذات الاستهداف الاقتصادي، فقد انخلع مفعول المال عندما أعادت "14 فبراير" صياغة قانون المعيشة والتضامن الاجتماعي، وتمّ ذلك بتنظيم لقمة العيش من جهة، وتأميم غريزة الكسب والرّفاهيّة من جهة أخرى. وهكذا، فإنّ الخاسر لا يضرّه خسارة المزيد.
من بين الأمور القليلة التي يُجْمع عليها المعارضون والموالون هو فشل النظام في الإعلام الخارجي وتثمير علاقاته الدّوليّة. أثبت دبلوماسيو النّظام، على الدّوام، عدم صلاحيتهم لشغْل مناصبهم. "سفيرة" شعبها، مريم الخواجة، كانت أبرع من سفراء النّظام قاطبة، هؤلاء الذين لم يزد دورهم عن الاستقبالات الرّسمية وإقامة الحفلات المغلقة واستئجار الأقلام والأقنية. من المؤكّد أن حماقات النّظام وفّرت الوقت، إلا أن إبداع البحرينيين في فنون الإبلاغ، وإيمانهم بعدالة قضيّتهم، مكّنهم من اكتساب الاحترام والتأييد في عواصم العالم. الجوائز الدولية التي تُوِّج بها البحرينيون المتعاطفون مع ربيع اللؤلؤة، وخلوّ وفاض النّظام إلا من الإدانات الدّوليّة، يختصر قصّة الفشل المدوّي.
والسّؤال: إلى متى؟ النّفق الذي دخله النّظام لا يصلح الاستبداد مخرجاً منه. ربّما يحاول النظام إقناع نفسه بحياة الأنفاق والتكيّف معها، إلا أنها حيلة العاجز، بل الغبي، الذي يدمّر نفسه بنفسه. شاهدوا مراراً القذافي ونفوقه، لعلّه يكون لكم عبرةً أخيرة.
*كاتب بحريني