البحرين بين معارضة الإصلاح ومعارضة الإسقاط.. ما العمل؟
يوسف مكي - 2012-07-04 - 7:30 ص
يوسف مكي*
لازال قسم كبير من المعارضة البحرينية وعلى رأسها الوفاق وحلفاؤها تعلق آمالا على أن النظام الحاكم في البحرين يمكن إصلاحه. وبالتالي فإن سقفها لا يتجاوز مطالب الإصلاح، وتحت مظلة آل خليفة. وبالمقابل هناك معارضة أخرى بعضها رسمية كجمعية العمل الاسلامي (أمل)، وبعضها غير رسمي كحركة 14 فبراير وحركة حق والوفاء الإسلامي ترى أن الجري وراء مطالب إصلاح النظام، إنما هو وهم وسراب لا طائل من ورائه. وبالتالي فإن الأقرب إلى الحقيقة في البحرين هو مطالب إسقاط النظام، وقد جربنا منطق الإصلاح منذ التوافق على الميثاق، ولم نصل إلى شيء، بل أوصلنا النظام إلى الطريق المسدود.
طبعا، الطرفان معارضان للحكم، لكنهما على طرفي نقيض في مقاربتهما لكيفية التعامل مع النظام، وأيضا على اختلاف كبير في سقف المطالب، وبطبيعة الحال على اختلاف في تحليلهما لطبيعة النظام وإمكانية الاستجابة لمطالب الشعب. ويتلخص الموقفان في شعاري إصلاح النظام، وإسقاط النظام.
فالوفاق ومن معها من جمعيات عندما تدور في فلك الإصلاح في صراعها مع النظام، فإنما يعود ذلك إلى جملة من التحليلات السياسية والفكرية التي تتبناها تلك الجمعيات حول الوضع المحلي والإقليمي والدولي وحول طبيعة النظام، مع وجود فوارق بطبيعة الحال بين جمعية وأخرى في التفاصيل وربما في المنظور وفي المرجعيات حول هذه القضايا، مع وجود اتفاق في الخطوط العامة.
فعلى سبيل المثال فإن الوفاق تنطلق في مقاربتها للنظام أولا من خلال نظرة المرشد الروحي لها وهو الشيخ عيسى قاسم، وهي النظرة المتمثلة في أن مطالب إصلاح النظام هي المطالب المناسبة للحركة الشعبية على الأقل في المرحلة الراهنة، وأن مطالب تجاوز الإصلاح إلى الإسقاط ليس من الحكمة في شيء. فموقف الوفاق هنا هو امتداد لموقف الشيخ عيسى قاسم، إنه موقف مرجعي إذا جاز القول بالنسبة للوفاق.
كما تنطلق نظرة الوفاق أيضا وخاصة قيادتها من مقاربة سياسية لواقع البحرين الجيوبوليتيكي المتشابك وعلاقته بدول الجوار (دول مجلس التعاون) التي لن تسمح بتغييرات جوهرية في بنية النظام البحريني أو تمس بالتوازنات الإقليمية، وكذلك الموقف الأمريكي الداعم للنظام بحكم التحالف الاستراتيجي ومصالح الولايات المتحدة في البحرين، والتي لن تسمح هي الأخرى باستبدال نظام كالنظام البحريني فهو حليف وأمين على مصالح أمريكا. وأن أقصى ما تقوم به الولايات المتحدة في هذا الشأن هو حث النظام البحريني وبشكل رقيق وناعم ولطيف على الدخول مع المعارضة في حوار منتج والوصول إلى إصلاحات تقبل بها المعارضة، طبعا المقبولة أمريكيا وفي نفس الوقت لا تمس في التحليل الأخير مصالح العائلة الحاكمة، ولا تهدد على المدى البعيد المصالح الاستراتيجية الأمريكية في البحرين، أو دول الخليج الأخرى. فالمنطقة هي منطقة نفوذ أمريكي، ومن وجهة نظر الوفاق لابد من أخذ ذلك في الحسبان في اللعبة السياسية مع النظام، حسابات سياسية قد تصح سياسيا، لكن لا تصح ثوريا.
وبناء على هذه الرؤية والاعتبارات من قبل الوفاق وراعي الوفاق/ الشيخ عيسى قاسم، فإن مطلب إصلاح النظام هو الشعار الأنسب للحركة السياسية، والشعار الممكن تحقيقه والمقبول في ظل توزانات القوى محليا وإقليميا ودوليا. وبذلك فإن الوفاق مع أخواتها من الجمعيات الحليفة تتحرك في الساحة ضد النظام ولكن على أرضية الإصلاح السياسي، وعلى أساس فكرة مسبقة تقول إنه يمكن إصلاح النظام، ولا داعي للقول بإسقاطه، ولا حاجة لتسقيط رموزه. مع العلم أن هتافات الوفاق تنصب في الغالب على أحد أهم رموز النظام، خليفة بن سلمان، حيث تطالب بتنحيته وإسقاطه.
أما من منظور المعارضة الجذرية/ الثورية غير الرسمية (حركة 14 فبراير وحركة حق وحركة أمل والوفاء الإسلامي وشخصيات غير منتمية/ مستقلة) فإنها إذ تؤكد على صحة نظرة الوفاق إلى تعقيدات الوضع المحلي والإقليمي والدولي، والتي لا تسمح بشعار إسقاط النظام فإنها تعتبرها صحيحة ولكن على مستوى التحليل، ولكنها بالمقابل على المستوى الميداني تنطلق من مقاربة دقيقة وملموسة لواقع البحرين ولطبيعة النظام الحاكم بشكل خاص، مقاربة بمنطق ثوري لا بمنطق سياسي، وفرق بين المنطقين وحساباتهما.
وتتمثل هذه المقاربة في أن النظام في البحرين ليس مؤسسة دولة بالمعنى المتعارف عليه وليس سلطة سياسية مؤسسية بالمعنى المتعارف عليه أيضا، إنما حكم عائلي بواجهة دولة تمسك فيه هذه العائلة مفاصل الدولة، الأمن والدفاع والقضاء والتشريع، فالدولة هي العائلة. ودولة أو نظام بهذه المواصفات يصبح عصيا على الإصلاح، إذا لم يكن من المستحيل لأسباب تتعلق في المقام الأول بطبيعته وتطابق الدولة مع العائلة، ثم بالظرف الإقليمي والدولي. ولكن تبقى المشكلة في طبيعة النظام أولا وأخيرا.
وبناء على هذه النظرة المقاربة لطبيعة النظام العائلة العصية على الإصلاح تصبح الدعوة إلى الإصلاح مجرد أوهام سياسية لا فائدة منها، بل تضيّع القضية وتبلبل الحراك الشعبي بين من يطالب بالإصلاح ومن يطالب بالإسقاط، وهذا من شأنه أن يخدم النظام ويضعف من الحركة الشعبية.
كما أن المعارضة القائلة بالإسقاط تعيب على المعارضة المتبنية للإصلاح، قائلة لو كان ما تقولون به سليما وممكنا وقابلا للتحقيق لقام النظام بإجراء الإصلاح ليس الآن إنما منذ قبل عشر سنوات، حيث يطنطن بالمشروع الإصلاحي، ولكن لا شيء من ذلك، لا بل لم يبدِ شيئا من بادرة إصلاح على امتداد سنة ونصف من الحراك الشعبي، خاصة أن موضوع الإصلاح الذي تقولون به ويقول به النظام صار له أكثر من عقد من الزمان، والوضع السياسي ينحدر من سيء إلى أسوأ، وحدث الإنفجار الكبير في 14 فبراير.
فلو كان النظام قادرا على الإصلاح لقام بذلك، لكنه غير قادر على فعل ذلك، والتجربة خير برهان على ما نقول، والواقع دليل دامغ إلى ما نذهب إليه من خيار أقصى، أي خيار الإسقاط. وفي ضوء هذا التجاذب بين القائلين بالإصلاح، والقائلين بالاستعصاء على الإصلاح أو الإسقاط يبرز السؤال المهم. ما العمل؟
بالنسبة للقائلين بإصلاح النظام سيظلون متمسكين بموقفهم حتى إشعار آخر، ولكن الواقع يكذب شعارهم (إصلاح النظام) وممارسات النظام القمعية تدحض دعواهم، أو تتبدل قناعاتهم بسبب فتوى أو أي سبب كان في أن الإصلاح غير ممكن في نظام قبلي عائلي قائم على منطق الغلبة والغنيمة والامتياز والتمييز ومنطق السيد والعبد في العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وبالتالي ينتقلون إلى صف القائلين بالإسقاط.
أما بالنسبة للقائلين بالإسقاط فسيظلون متمسكين بهذا الموقف والشعار، ويسندهم في ذلك الواقع نفسه حتى لولم يتحقق شعارهم ومطلبهم، حيث ممارسات النظام تدفع باتجاه موقف القائلين بالإسقاط وتؤكد صوابية خياراتهم السياسية الثورية. وفي نفس الوقت فإن هؤلاء إذْ يدركون صعوبة الموقف الاقليمي والدولي، فإنما يعوّلون على عامل مهم من وجهة نظرهم وهي الإرادة الشعبية والتي تلعب دورا في إمكانية التغيير الجذري، ويمكن أن تخربط المعادلات المحلية والإقليمية والدولية في لحظة من اللحظات، إنه منطق ثوري.
وهي إرادة شعبية يراها القائلون بالإسقاط أيضا، إنها أقرب إليهم من المعارضة الإصلاحية. بمعنى أن جمهور الجمعيات الإصلاحية من وجهة نظر المعارضة الجذرية هو مع الإسقاط وليس مع الإصلاح حتى لو حاولت تلك الجمعيات من تطويعه أو تأطيره أو تطويقه في خانة الإصلاح والشعارات الإصلاحية الباهتة، أي أن جمهور الوفاق - وفقا لمنطق التيار الثوري - يظل في قرارة نفسه هو أقرب إلى قيادة جمهور المعارضة الجذرية من قيادة الوفاق الإصلاحية وجمهورها الملتزم بها حرفيا. والخير كل الخير وفقا لهذا التيار هو في استمرارية الحراك الشعبي.
لذلك فإن القائلين بالإسقاط قد حسموا أمرهم وانتهى الأمر، ولا يوجد خط رجعة بالنسبة لمطلبهم وشعارهم المتمثل في إسقاط النظام، إلا إذا استجد شيء في تغيير بنية النظام بما يتناسب ومطالبهم السياسية الجذرية ويحقق ما خرجوا من أجله.
أما بالنسبة للنظام فهو يعرف تماما أن من صنع الحراك الشعبي منذ 14 فبراير حتى الآن هو المعارضة الجذرية التي تقول بالإسقاط والتي يقبع رموزها وراء القضبان، أما المعارضة الإصلاحية فقد جاءت بالتبعية لحراك 14 فبراير. وربما أرادها النظام بديلا لأن سقف مطالبها أهون عليه من مطالب المعارضة الجذرية.
النظام يريد المعارضة الإصلاحية، ولكن دون أن يقدم لها شيئا، الأمر الذي يبقي جذوة حراك 14 فبراير وحلفائه من القائلين بالإسقاط (المعارضة الجذرية في السجن وخارجه) وهاجة ومتقدة ومؤرقة للنظام في نفس الوقت (لذلك هي باقية في السجن حتى إشعار آخر لأنها الخطر الحقيقي بالنسبة للنظام) وعلى الرغم من القمع الشديد. يضاف إلى ذلك أن تحليل المعارضة الجذرية لطبيعة النظام أكثر صدقية وملموسية واستيعابا لألعاب النظام، خاصة أن النظام لم يقدم ما ينفي هذه النظرة، ولم يقدم للقائلين بالإصلاح ما يؤكد حجيتهم في الإصلاح لإقناع جمهورهم أو المعارضة الجذرية بصوابية موقفهم، وبالتالي وفي ظل هذه التفاصيل والمواقف واستعصاء إصلاح النظام، فإن رأي المعارضة الجذرية يمثل التحليل الملموس للواقع الملموس، ودون أن يغيب عنها حجم الدعم والتغطية الإقليمية والدولية لتصرفات النظام وانتهاكاته، والظروف المعاكسة لعملها، فقط إن العامل الذاتي من وجهة نظر هذه المعارضة يعتبرا حاسما في التحليل الأخير بالاعتماد على المبدأ القائل، إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر، مع قناعتها أن صراعها مع النظام وليس مع القدر.
*باحث بحريني متخصص في علم الاجتماع.