من أرشيف فجر الخميس الدامي: هكذا عاش الأطباء يوم 17 فبراير 2011
2020-02-17 - 7:49 م
مرآة البحرين (خاص):
الحدث المزلزل، المشحون بالغدر، لا يمُحى من الذاكرة أبداً، مهما أُخمد أو أُرهب. وما لم يُعالج، سيُعيد التذكير بنفسه كل مرّة بشكل مختلف، وسيبقى يعيد شحن ضحاياه عام بعد عام، يراكم لانفجار جديد.
ما ننشره هنا شيء من أرشيف أحداث فبراير 2011 المنشورة سابقاً في كتاب مرآة البحرين "شوكة الأطباء"، وشيء من محنة الأطباء التي عايشوها في مثل هذا اليوم، ننشره لأن هذا جرح هذا التاريخ وهذا الغدر لم يغادرنا بعد، ولم نتجاوزه بعد، بل ما زلنا نعيش امتداداته التي تتضاعف قسوتها كل يوم.
لحظة الهجوم
فجر 17 فبراير، كل من الطبيبين علي العكري وصادق العكري في مناوبتهما الليلية في خيمتي الأطباء في دوار اللؤلؤة مع بقية الطاقم الطبي. حدث لم يتوقعه أحد منهم ولم يتخيلوا وحشيته. هجوم مباغت من قوات الأمن عند الثالثة فجراً في هدوء الخيام والناس. يقتحم الأمن الخيمة التي يناوب فيها الطبيب علي العكري. يرجوهم: "رجاءً لا تضربوا، جميعنا طاقم طبي أتينا فقط لحالات الطوارئ". يكون الجواب إلقاء مسيلات الدموع داخل الخيمة واختناق من فيها. يخرج العكري معه عدد من الطاقم الطبي في سيارته ويتجهون إلى مستشفى السلمانية.
الطبيب صادق العكري في الخيمة الأخرى، غادرها قبل أن يتذكر أن أحد أفراد الطاقم الطبي نائماً هناك. يعود ليطمئن عليه، فتداهمه قوات الأمن. لا يشفع له رداءه الأبيض وإخباره لهم أنه طبيب. يتم ركله بالأحذية وضربه بالهراوات والأسلحة، فتكون إصابته البليغة التى نقل على إثرها إلى غرفة العمليات.
نداء الاستغاثة لسيارات الإسعاف أطلق مباشرة بعد وصول خبر ضرب الدوار. خرجت سيارات الإسعاف بين الساعة 3:30- 6:30 صباحاً فقط، اختفت بعدها.
المصابون لجأوا إلى مجمع السلمانية الطبي، اعتبروا الحرم الطبي مكاناً آمناً، فيما الطاقم الطبي في حالة من الذهول. لا أحد يعرف حجم المصابين وعددهم وإصاباتهم. الحالات والإصابات بدأت تتوافد إلى المستشفى في سيارات خاصة. توافدت الجماهير إلى مستشفى السلمانية في حالة من الهياج والغضب الشديدين، كان الحدث الغادر صادماً للجميع، قتيلان سقطا على الفور هما محمود مكي (21 عاماً)، وعلي خضير(58 عاماً)، وإصابة خطيرة راح ضحيتها علي المؤمن (22 عاماً)، وعشرات الجرحى توافدوا على المستشفى.
بعد الساعة الثامنة صباحاً، حدث ثوران شعبي عارم، أعداد غفيرة احتشدت عند المستشفى. المحتجون حاولوا العودة للدوار. قوات الأمن واجتهم بمسيلات الدموع والرصاص المطاطي والانشطاري عن قرب، إلى الحد الذي تم فيه تفجير رأس عيسى عبد الحسن (61 عاماً) بتصويب مباشر، إصابات مختلفة ومتفاوتة دخلت المستشفى، إحدى الحالات تعرضت لإصابة بالرصاص الانشطاري في الرقبة، تم إنقاذها، بعد عمل الأشعة لها اتضح أن الرصاص الانشطاري منتشر في كامل الرئة، لكنها نجت من الموت.
قوات الأمن تقدمت من جهة الدوار باتجاه مجمع السلمانية. وصلت مستشفى الطب النفسي، وهنا بدأ منع المسعفين من الوصول إلى الدوار، تم توقيف المسعفين وضربهم.
الأطباء في مفاجأة الحدث والتعامل مع الحالات التي تصل إليهم، وفي ترقب ما يصلهم من حالات جديدة. الطوارئ تحول إلى فوضى عارمة بسبب العدد الكبير من أهالي المصابين والمتجمهرين. الأطباء قرروا الخروج مع سيارات الإسعاف لإحضار المصابين من الدوار، لكن سيارات الإسعاف اختفت فجأة. عندما سأل الأطباء عنها أخبرتهم إدارة المستشفى أنه "بسبب التجمهر وعدم قدرة السيارات على التحرك بسهولة، فقد تم سحبها إلى مركز كانو الصحي". أطباء ذهبوا إلى مركز كانو الصحي ليخرجوا مع الإسعاف من هناك، لكنهم تفاجئوا أن الباب مقفل من الخارج . كانت الساعة التاسعة صباحاً، والإصابات ما زالت تأتي السلمانية بسيارات مدنية.
الإسعاف الحائر
بين الساعة التاسعة والحادية عشرة، يبدأ استنفار الأطباء، كيف يمكن الوصول إلى الحالات التي ما زالت محاصرة في الدوار، وسط الطوق الأمني الذي أغلق كل الطرق الموصلة إليه، وكيف يتأكد الأطباء أنه تم إخلاء الدوار من الجرحى والمصابين. الإسعاف ممنوع من الوصول إلى مكان الحدث، والمسعفين تعرضوا للضرب وتم سحب سيارات الإسعاف منهم. مجموعة من الأطباء تذهب للالتقاء (بوليد المانع) ليتم السماح للإسعافات بالخروج. بعد الساعة 11:30 يأتي الإذن بخروج الإسعافات من الوزير. منذ السادسة والنصف وحتى الحادية عشرة والنصف كان الإسعاف ممنوعاً من الوصول إلى الدوار "لا أحد يعرف سبب منعنا من الوصول إلى الدوار قبل هذا الوقت، لا تفسير له سوى أن الأمن كان لديه مهمة خاصة ينجزها هناك طوال الساعات الخمس هذه، وعندما انتهى من مهمته الخاصة، سمح للإسعاف والكادر الطبي بالوصول" تقول إحدى الطبيبات.
قبل الإذن للإسعافات بالخروج، كانت حالة أقرب إلى الثورة الغاضبة يعيشها الطاقم الطبي. عند بوابة قسم الطوارئ انقسم الأطباء إلى قسمين. فريق يقول بالخروج والتظاهر احتجاجاً على منع سيارات الإسعاف من الوصول للجرحى. هذا الفريق يضم علي العكري الذي كان شاهداً على وحشية الهجوم وما أصاب قريبه صادق العكري. الفريق الآخر يضم زميله نبيل تمام، ويرى أن يبقى الأطباء لمعالجة المصابين. خرجت المجموعة في مسيرتها الاحتجاجية بشكل عفوي وتحت تأثير الحدث الساخن الذي عايشه الكادر الطبي للمرة الأولى في تاريخ البحرين. المجموعة الثانية اجتمعت بعد أن أعطاها الوكيل أمين الساعاتي الضوء الأخضر، وتم الإعلان في أجهزة المناداة داخل السلمانية عن اجتماع للأطباء، حضره ما يقارب 50 طبيباً، الهدف هو التهدئة ومحاولة الوصول إلى حل مشكلة الفوضى التي كانت قد سيطرت على المستشفى بالكامل.
في الاجتماع تم الاتصال برئيس جمعية الأطباء أحمد جمال والنائب علي ابراهيم، ليصدر بيان إدانة من قبل الجمعية: "إن ما حدث هذا اليوم من استخدام العنف المفرط والغير مبرر من قبل أجهزة الأمن والذي نتج عنه وفيات وإصابات بالغة بين جموع المواطنين المعتصمين سلميا بكفالة الدستور والأعراف الدولية لمهول وغير مقبول، كما أن منع الطواقم الطبية والمهنية من أداء واجبها في إسعاف المصابين ونقلهم إلى المستشفى أمر لا تقره الشرائع الدولية والإنسانية وعليه، فإن كل من جمعية الأطباء البحرينية وجمعية أطباء الفم والأسنان البحرينية، تدين وتستنكر هذا العنف غير المبرر تجاه المواطنين المسالمين والطواقم الطبية التي تقدم لهم الإسعافات اللازمة، والذي نتج عنه أيضاً إصابة عدد من أفراد الطواقم الطبية بجروح بليغة. ونطالب الدولة وعلى رأسها جلالة الملك للتدخل السريع لوقف هذه التصرفات والإجراءات الضارة بالمواطنين والوطن والحيلولة دون بث الفرقة والهلع في صفوف المجتمع الواحد والآمن. والله ولي التوفيق".
الحادية عشرة والنصف، يتزامن خروج الفريق الأول من الأطباء في المسيرة الاحتجاجية، مع اجتماع الفريق الثاني، مع بيان جمعية الأطباء، مع صدور قرار الوزير أخيراً بالسماح للإسعاف بالخروج. الأطباء يقطعون مسيرتهم ويركبوا الإسعافات ويتجهون للدوار "لم نجد شيئاً هناك. لماذا إذاً تم منع الإسعاف من الوصول إلى الدوار طوال الساعات الخمس؟ قمنا بمسح المناطق القريبة من الدوار لعل مصاباً هنا أو هناك، لكن لم نعثر على أحد" تشرح إحدى الطبيبات.