100 عام على أول انتفاضة في البحرين
2022-02-14 - 5:37 ص
مائة عام على أول انتفاضة بالبحرين
مرآة البحرين (خاص): في 6 فبراير/شباط 1922، خرج آلاف من البحرينيين الشيعة (البحارنة) في تظاهرة حاشدة بسوق المنامة، ودخلوا في مواجهة مع فرقة (فداوية) كانت تعتقل رجلا من البلاد القديم وتضربه بوحشيّة. حرّر الحشود الرجل من الميليشا التي تعمل لدى الحاكم الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، وضربوا الفداوية، ثم أعلنوا إضرابا عاما وأغلقوا متاجرهم كافة في السوق وسيطروا عليه.
أرسل المعتمد السياسي البريطاني في البحرين، الميجور ديلي، برقية سرّية* مستعجلة إلى المقيم السياسي البريطاني في بوشهر (المسئول المفوّض عن كل الخليج)، ليبلغه بالتطوّرات الخطيرة "نظّم البحرينيون مظاهرة ضخمة، وأغلقوا السوق وحرّروا بالقوة من قبضة أحد الفداوية رجلا كان قد تعرّض لسوء معاملة. فألقى هذا العمل الرعب في نفوس الشيوخ".
حذّر المعتمد السياسي حاكم البحرين من استخدام المزيد من القوة، ونصحه بتهدئة الناس ومقابلتهم. انعقد حوار بين الحاكم وممثلي البحارنة قدّموا فيه قائمة مطالب مكتوبة، تظاهر عيسى بن علي بالاستجابة لها بعد يومين.
يصف المقيم السياسي البريطاني الحدث بأنه "مظاهرة ناجحة مناهضة لقمع عائلة الشيخ"، ويصف المعتمد السياسي قائمة المطالب التي رضخ لها الحاكم بأنّها "ماجنا كارتا" بحرينيّة، قد لا ينفّذ منها شيء.
كانت تلك شرارة ما سيُطلق عليه "انتفاضة البحارنة". ستطير البرقيّات من مبنى المعتمدية السياسية (حيث سيتظاهر البحارنة وسيعتصمون طلبا للحماية البريطانية) إلى المقيمية السياسية في بوشهر، ومنها إلى حكومة الهند البريطانية، وصولا إلى حكومة لندن. وسيكون المعتمد السياسي في انتظار برقيّات الرد على وجل.
هي المرّة الأولى التي يصف بها البريطانيون تحرّكات البحارنة بالتظاهرات والاعتصامات، بعد أن حذّروا سابقا من اندلاع ثورة، كما أنّها المرّة الأولى التي يُشار فيها إلى لقاء أو "حوار" مباشر بين الحاكم والبحارنة. قبل ذلك، لم يكن هناك أي اعتراف بهم حتى كـ"رعايا". كان آل خليفة يتعاملون معهم على الأرض بمنطق "الغزاة" حتى بعد 150 عاما من دخولهم البحرين. لم يقبل آل خليفة البحارنة أبدا كرعايا أو كجزء من مجتمعهم في وطنهم الجديد، رغم أنّهم سكّانه الأصليون.
لم يحدث أن رأى البحارنة في البريطانيين أملا، فالتاج البريطاني كان الراعي والحامي الرسمي لآل خليفة على مر تاريخه. لذلك، سبق هذه الانتفاضة تحرّك في اتّجاه آخر حين لجأ عالم الدين الشيعي السيّد شبر بن علي بن مشعل الستري إلى ملك إيران ناصر الدين شاه قاجار، عام 1895، لمساعدته في إنجاح انقلاب عسكري كان قد رتّبه بمعونة رجال من القطيف والأحساء لإسقاط حكم عيسى بن علي، لكن الانقلاب باء بالخذلان والفشل.
رئيس الخليج يقابل الحشود الهائلة
استغل البحارنة ظروف نهاية الحرب العالمية الأولى ومحاولات بريطانيا إخضاع البحرين لإصلاحات إدارية، واتّصلوا، ربّما لأوّل مرّة، بالبريطانيين مباشرة. لم تمض العشرين عاما الأخيرة بين البريطانيين وآل خليفة على ما يرام***، بدءا من أحداث العام 1904، مرورا بتعيين معتمد سياسي إنجليزي، ووصولا إلى إصدار التاج البريطاني "مرسوم البحرين الملكي" الذي يحوّل البحرين إلى مُستعمرة تخضع بشكل مباشر إلى حكم المقيم السياسي، بإشراف من وزير الحرب والمستعمرات آنذاك ونستون تشرشل.
قبل فبراير/شباط 1922، سُجّل تحرّك سابق للبحارنة عند زيارة المقيم السياسي البريطاني المقدّم تريفور للمنامة. استقبله في 21 ديسمبر/كانون الأول 1921 آلاف من البحارنة حسب وصفه القلق "عند وصولي إلى مبنى الوكالة وجدتُ حشدًا هائلا من البحارنة بانتظاري" وقدّموا له ما سيعرف لاحقا بالعريضة الأولى باسم "جميع الشيعة في البحرين".
ديباجة العريضة المكتوبة بعناية، وبعد أن امتدحت عدالة الملكة فكتوريا والملك جورج، توجّهت بخطابها للمقيم السياسي بوصفه "رئيس الخليج" وقالت إن "المجتمع الشيعي يعيش في ظل إذلال كبير، وعُرضة لمجازر عامة ولا ملجأ له، كما أنّ أيًّا من أدلّتهم لا تُقبل، وممتلكاتهم عُرضة للنهب، وهم أنفسهم معرَّضون لسوء المعاملة في كلّ لحظة" وانتهت بطلب الحماية البريطانية رسميا "هذه الحكومة مسؤولة أمام الله على الظلم وسفك الدماء الذي نتعرّض له لأنّها قادرة على مساعدة الضعفاء والمساكين وعلى أن تخلّصنا من أيدي الظالمين".
بريطانيا تفتح ملف استبداد الشيخ عيسى بن علي
ما رواه كبار الشيعة للمقيم السياسي خلال اللقاء عن جرائم آل خليفة، وتحديدا عبد الله نجل الحاكم عيسى بن علي، وخالد بن علي شقيق الحاكم، فضلا عن نوايا التظاهر وضغط الحشود، جعل المقيم السياسي يطلب من المعتمد السياسي الميجر ديلي إعداد تقريره الشهير لتقصي الحقائق، كما أبرق المقيم السياسي سريعا لحكومة الهند لإبلاغها عن هذه الاضطرابات، مفتتحا في دوائر القرار السياسي البريطاني ما سيعرف بملف "استبداد شيخ البحرين وعائلته برعايا البحرين".
بعد 4 أيام، قدّمت عريضة أخرى إلحاقا بالأولى عن "عموم شيعة البحرين" خاطبت المقيم السياسي بـ"حضرة شيخنا رئيس الخليج دام عزه ومجده". تمت الإشارة من الجديد إلى ما جرى في لقاء الوفد مع المقيم من بيان لما يجري على الشيعة "من البلايا والمحن التي تضيق الصدور لسماعها من نهب الأموال وقتل الرجال وذهاب ناموسنا والتشريد عن أوطاننا". طلب مقدّمو العريضة من الحكومة البريطانية إدراك الشيعة وإغاثتهم، مشيرين إلى اجتماع سياسي هائج ضد العائلة الحاكمة في أحد المآتم، ومحذّرين من أن سكوت الناس لن يدوم وأنهم في اضطراب عظيم.
عبد الله بن عيسى: اغتصاب 500 فتاة
وقبل اندلاع انتفاضة فبراير بأيام، وتحديدا في 24 يناير/كانون الثاني 1922، قدّم 64 شخصا "العريضة الثانية" إلى المعتمد السياسي الميجر ديلي، متسائلين عن نتائج لقائهم وعريضتهم إلى المقيم السياسي. سلّطت العريضة الضوء بشكل أكبر على على الشيخ عبد الله ابن الحاكم "قبل أن يتسلّم الشيخ عبد الله زمام الحكم كان الظلم سائدًا ولكن عند تسلّمه السلطة رسميًّا بات الاستبداد يُمارَس إلى درجة المساس بأعراضنا، حتّى إنّ الفتيات أصبحن يُؤخذن من بيوتهنّ بالقوّة، وكان يمتنع والد الفتاة أو والدتها عن التكلّم عن ذلك بسبب الخوف". قالت العريضة إن الحاكم "الشيخ عيسى هو حتّى اليوم ليس سوى ألعوبة في أيدي عبد الله".
في العام 1919، صعد نجم عبد الله الابن المفضّل للحاكم عيسى بن علي. سيطر عبد الله على مفاصل الحكم غير المركزي، وأوصل 50 عاما من حكم والده الظالم إلى ذروة الطغيان والجبروت ومن ثم إلى نهاية مذلّة. دع جانبا ما كان يجري منذ احتل آل خليفة البحرين من إجبار الشيعة على العمل بالسّخرة (العمل القسري)، ودفع الجزية عن كل نفس (ضريبة العيش في البلاد)، وضريبة عن إحياء الشعائر الدينية، وغصب أراضيهم ثم تشغيلهم فيها، والسجن التعسّفي، والاعتداءات الوحشية، وإطلاق أيدي الفداوية للتنكيل بكل من لا يستجيب منهم إلى رغبات وأوامر حكّام الإقطاعيات من شيوخ آل خليفة. كان عبد الله يختطف النّساء، ويشغّلهن بالدّعارة، وكان متّهما باغتصاب 500 فتاة في البحرين!
كان عبد الله حاكم جدحفص والسنابس لكنه كان واقعا الحاكم الفعلي على كل البلاد. كانت عمليات القهر والاستباحة منظّمة وواسعة جدا في عهده الذي كان نهاية عهد أبيه. قبل أن تشق التظاهرات الشعبية طريقها إلى الشارع والسوق، سيبعث المعتمد السياسي البريطاني الميجور ديلي تقريره الشهير الذي طلبه المقيم السياسي عن جرائم آل خليفة "بعض نماذج الظلم الذي يلحق بالمواطنين البحرينيين من العائلة الحاكمة في البحرين" وبطل غالبيتها عبد الله بن عيسى: الاستيلاء على أموال ورثة، بيع أراض ليست له، مصادرة البيوت، اغتصاب فتاة في الشارع، إجبار عوائل على إرسال فتياتهم له أو مغادرة البحرين، تزويج فتاة بأحد خدّامه ثم وضعها كجارية/عشيقة له، ومؤامرات جنسية بغرض الابتزاز المالي.
بداية ظهور الخوالد
جرت عمليات قتل منظّمة في وضح النهار في جدحفص وسترة والنعيم، ثم جرى اعتقال أقرباء المقتولين لتهديدهم ومنعهم من تقديم شكوى. حاكم توبلي حمود بن صباح آل خليفة كان له أيضا نصيب في التقرير. قتل رجلا من توبلي وحاول قتل زوجته وأبنائه ثم هدّدهم بالقتل لو اعترفوا عليه.
برز أيضا في ذلك الوقت رأس جناح الخوالد، خالد بن علي، أخو شيخ البحرين، وهو حاكم سترة، وقد وردت قصص مبكّرة عن جرائم القتل الفظيعة التي يرتكبها في أول برقية من المقيم السياسي لحكومة الهند بعد لقائه وفد البحارنة. كان أقل ما يفعله إجبار الصيادين على إعطائه نسبة كبيرة من الأسماك يوميا، ودفع ضريبة مالية عن كل نفس دون أن يكون لها عنوان. ولاحقا سيكون لخالد دور أكبر في حادثة الجمل التي تنتهي بمحاكمته وأبنائه وطرده من سترة.
نهاية مذلّة
سيكون سوق المنامة ومبنى المعتمدية السياسية (السفارة البريطانية حاليا) مسرح الأحداث السياسية الصاخبة والتمرّدات الجريئة الأولى التي قادها البحارنة ضد العائلة الحاكمة طوال العام 1922. قبل هذا التاريخ لم يكن للبحارنة أي ظهور على المشهد السياسي إلا في موقع المضطهد والمقهور الذي لا يستطيع المقاومة ولا المعارضة ولا رد الظلم ولا فعل أي شيء تقريبا إلّا الرضوخ.
وقع البريطانيون تحت ضغط شديد، وحاول المقيم السياسي تريفور والمعتمد السياسي الميجور ديلي تخفيف حدّة النزاع ووضع حد لتصرّفات عبد الله بن عيسى وإبعاده عن الشأن العام، لكن عبد الله لم يكن سوى قمّة الجليد. كان قبله علي بن أحمد، وسيأتي بعده خالد بن علي، وكان أبوه هو الراعي الرسمي لما سيسمّيه البريطانيون "سياسة الإرهاب" في البحرين، وهو الرافض والمعطّل لكل محاولات تشكيل مؤسّسات حكم تمّهد لإنشاء دولة يمكنها أن تستقر أمنيّا وسياسيا.
في "مذكّرة حول الوضع السياسي في البحرين، نوفمبر/تشرين الثاني 1921"، يروي المعتمد السياسي أن الشيعة كانوا مستعدين لمناشدة حاكم عربي آخر كي يحكم المنطقة ويعاملهم بطريقة أفضل، فيما لو تم نزع الحماية البريطانية عن حكم آل خليفة. ويختم بقوله "ظلم آل خليفة هو أكبر من أن يتحمّله العرب العشائريون الذين قد يقدمون على الاستيلاء على الحُكم ما إذا بلغ بهم الاستياء حدًّا غير معقول".
رأى الميجور ديلي بأنّه من المستبعد أن يحاول الشيوخ بجدية إجراء إصلاحات، إلّا إذا ثار البحرينيون ودفعوا الشيوخ إلى ذلك، وينقل عن القيادي المعارض أحمد بن خميس أن الشيعة قد اقتنعوا أنّ أملهم الوحيد في كشف الظلم يكمن في طرح الاضطهادات الشديدة في الصحف.
في رسالة لاحقة ينقل المعتمد السياسي أن بعض الشيعة كانوا يؤيدون تمرّدًا مفتوحًا، ويُقال إنّهم كانوا يستوردون السلاح.
في برقيّته عن تظاهرة فبراير، يقول المعتمد السياسي بأن الشيخ عيسى يبدو "غافلا تمامًا عن حقيقة أنه يجلس على فوّهة بركان". وأخيرا في مايو/أيار 1923، اضطرّت بريطانيا إلى عزل الشيخ عيسى بن علي عن الحكم بشكل مذل، في أحد أهم ثمار انتفاضة البحارنة الأولى.
هامش:
* يكشف "أرشيف البحرين في الوثائق البريطانية"، ترجمة مركز أوال للدراسات والتوثيق، تسلسل هذه الوقائع التاريخية في البحرين خلال القرن العشرين عبر سيل من البرقيات والمذكّرات والرسائل والعرائض والتقارير. بقيت الكثير من هذه التفاصيل السرّية غائبة عن الرأي العام لعقود حتى سقطت السرّية عنها ونشرتها الحكومة البريطانية.
**ماجنا كارتا أو الميثاق الأعظم: هي وثيقة إنجليزية تاريخية صدرت في العام 1215 وألهمت الكثير من الدساتير، بما فيها دستور الولايات المتحدة الأمريكية. جاءت الوثيقة لتضع الملك الإنجليزي تحت سلطة القانون وتقيّد سلطاته، وهي تحمل اليوم رمزية كبيرة في الحرّيات والحقوق والصراع بين أصحاب السلطة والقوانين.
*** استعان الكاتب الدكتور علي الديري بالأرشيف البريطاني لوضع رواية تاريخية منضبطة لهذه الأحداث في كتابه "من هو البحريني؟". وبروح نقديّة أكمل الكتاب الصورة الناقصة بالمعلومات التي غابت عن أعمال تأريخية تناولت ما عرف بفترة الإصلاحات الإدارية وبناء الدولة الحديثة في البحرين، مثل كتاب قلائد النحرين في تاريخ البحرين لناصر الخيري، وعقود اللآل في تاريخ أوال لمحمد علي التاجر.