رؤية مشتركة: تقارب أمني بين الخليج وإسرائيل

وزير الدفاع الإسرائيلي غانتس ووزير شؤون الدفاع البحريني  النعيمي  بعد توقيع مذكرة تفاهم في مقر الدفاع البحريني (فبراير 2022)
وزير الدفاع الإسرائيلي غانتس ووزير شؤون الدفاع البحريني النعيمي بعد توقيع مذكرة تفاهم في مقر الدفاع البحريني (فبراير 2022)

إلهام فخرو وطارق باكوني - 2022-10-09 - 2:28 ص

في أواخر فبراير/شباط 2022، أعلن وكيل وزارة الخارجية البحرينية خبرًا مفاجئًا. خلال حديثه إلى وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس في مؤتمر ميونيخ للأمن، أقرّ الشيخ عبد الله بن أحمد بن عبد الله آل خليفة للمرة الأولى في العلن بوجود وكالة الاستخبارات الإسرائيلية  في بلاده. وأعلن عن "تعاون استخباراتي بين البحرين وإسرائيل" مضيفًا  أن "الموساد في البحرين وهم موجودون في المنطقة".

في الأشهر التالية لتوقيع اتفاقيات أبراهام في أواخر صيف العام 2020، أصرّ مسؤولون بحرينيون وإماراتيون على موقفهم بأنّ لا علاقة لهذه الاتفاقيات بأمنهم الخارجي أو الداخلي. ووصفها المسؤولون [الاتفاقيات] من كلتا الدولتين الخليجيتين بأنّها خطوة باتجاه التسامح والتعايش الإقليمي، وبوابة إلى الفرص الاقتصادية. ووصفت المندوبة الدائمة للإمارات في الأمم المتحدة، لانا نسيبة، الاتفاقيات في حديثها بعد أيام من توقيعها بأنّها خطوة من شأنها "دعم رؤية الإمارات للمنطقة باعتبارها منارة للتسامح والتعايش" وتوفر فرصًا جديدة لشبابها. بدت هذه التصريحات متسقة مع نص اتفاقيات أبراهام الذي تحدث عن تعزيز التبادلات الثقافية والعلاقات الاقتصادية والتجارة، والتزمت الصمت التام بشأن مسائل الدفاع والأمن.

شراكة أمنية علنية

بعد مرور عام ونصف على الاتفاقيات، بدأت شراكة أمنية علنية جديدة بين الجانبين تتبلور. في بادئ الأمر، شهدنا المشاركة المشتركة بين البحرين والإمارات وإسرائيل في مناورة بحرية مناورة بحرية بإمرة القيادة المركزية للقوات البحرية الأمريكية (NAVCENT) في البحر الأحمر في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2021. شكّلت تلك التّدريبات المناورات البحرية الأولى الّتي يتم الاعتراف بها علنًا بين إسرائيل والدولتين الخليجيتين. تلتها زيارة رئيس الموساد الإسرائيلي، يوسي كوهين، إلى البحرين في 6 مايو/أيار 2021. لم تكن زيارته الأولى إليها، لكن خلال هذه الزيارة، أفادت مصادر إعلامية عن أنّه شارك في محادثات مع كبار المسؤولين الأمنيين حول تعزيز التعاون والتنسيق في  المجالات الأمنية والقضايا ذات الاهتمام المشترك، في إشارة إلى تصورات البلدين عن التهديد المشترك من إيران. عندما تعرضت الإمارات في يناير/كانون الثاني 2022 لهجمات طائرات مسيرة من الحوثيين من اليمن، تدخلت إسرائيل لتقديم الدعم الأمني ​​والاستخباراتي. وفي منتصف فبراير/شباط 2022، أعلنت البحرين أنّ ضابطًا في البحرية الإسرائيلية سيتمركز بشكل دائم في البلاد كحلقة وصل مع إسرائيل. وفي الفترة الأخيرة، سافر وزراء خارجية أربع دول عربية - البحرين والإمارات العربية المتحدة والمغرب ومصر - إلى إسرائيل لحضور قمة مشتركة ضمت وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في الوقت الذي بدا فيه أنّ الولايات المتحدة على وشك استعادة اتفاقها النووي الّذي وقعته في العام 2015 مع إيران.

تشير هذه الأمثلة إلى توسع التعاملات السرية التي استمرت لسنوات بين عدة دول خليجية وإسرائيل، ومعظمها في مجالات تبادل المعلومات الاستخباراتية والتنسيق الأمني. وتطورها إلى مثل هذه الساحات المفتوحة هو السبب وراء اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل والإمارات والبحرين. لطالما أعجبت دول الخليج، ليس فقط بالبراعة العسكرية لإسرائيل بل بتعاملها مع شؤونها الأمنية. وعلى المستوى المحلي، تمتلك إسرائيل أكثر وكالات الاستخبارات تطوراً في الشرق الأوسط، وتبذل كافة جهودها لتطوير ونشر الأدوات التكنولوجية وبرامج التجسس الأكثر تقدمًا ضد أولئك الذين يُنظر إليهم على أنّهم معارضون. والأهم من ذلك، تتشارك إسرائيل مع دول الخليج الموقف بشأن التهديدات التي تمثلها إيران ودعمها للجماعات غير التابعة للدولة مثل حزب الله وحماس والحوثيين. وفي حين تظل دول الخليج منزعجة بشأن استخدام إسرائيل لقوتها العسكرية لإخضاع وترهيب الفلسطينيين، إلا أنها تنظر بشكل متزايد إلى التضامن مع فلسطين على أنّه ثانوي مقارنة بمزايا التقارب مع إسرائيل. ومثل هذا التقارب له فوائد واضحة فيما يتعلق بها [دول الخليج]: توجيه رسالة ردع إلى إيران مفادها أن القوة العسكرية الأقوى في المنطقة سيكون لها بازدياد موطئ قدم عبر شواطئها، ورسالة إلى حركات المعارضة الداخلية بأن الأدوات التكنولوجية التي تستخدمها إسرائيل لقمع المعارضة بشكل فعال  قد تُستَخدّم قريبًا في الدّاخل.

التهديدات الخارجية

لم تتراجع إسرائيل عن نشر ترسانتها العسكرية لملاحقة الجهات الإسلامية المدعومة من إيران والتي تهدد مصالحها. يهدف الحصار الإسرائيلي لغزة - الّذي دخل الآن عامه السادس عشر - إلى إضعاف حماس، التي سيطرت على القطاع في العام 2007 بعد انتخابات ديمقراطية. وخلال التصعيد الأخير بين الجانبين في العام 2021، ردت إسرائيل بقوة على الهجمات الصاروخية التي أُطلِقَت احتجاجًا على طرد الإسرائيليين للفلسطينيين في حي الشيخ جراح بالقدس، فقصفت قطاع غزة المحاصر، ما أدى إلى مقتل 248 شخصًا وإصابة ما يقرب من 2000 شخص. دول الخليج المُطَبّعة أعربت بخجل عن قلقها إزاء تصاعد العنف ولم تقم الصحف الكبرى بشيء لتغطية مقتل المدنيين الفلسطينيين بنوع الغضب ذاته الّذي كانت تظهره في الماضي. وذهب رجل دين إماراتي إلى أبعد من ذلك، إذ ألقى باللوم على حماس لإثارتها ردّ إسرائيل العنيف.

تنظر دول الخليج إلى تعامل إسرائيل مع حماس على أنه وسيلة فعالة لاحتواء نفوذها وخلق نوع الردع اللازم لمنع إيران من التوسع أكثر. الإمارات العربية المتحدة، على وجه الخصوص، ترى في تسليح إيران للجهات الفاعلة غير الحكومية - خاصة تلك التي لها وجود أقرب إلى موقعها - تهديدًا إقليميًا رئيسًا، وهي تنتقد الولايات المتحدة لاستبعادها الامتداد الإقليمي لإيران من نطاق محادثاتها النووية الأخيرة مع طهران. وتشعر البحرين بقلق أكبر، إذ إنها اتهمت إيران منذ فترة طويلة بالسعي إلى إثارة انتفاضة مسلحة في البلاد، وتزعم أنها اعترضت شحنات أسلحة إيرانية متعددة إلى شواطئها. بالنسبة إلى الدولتين الخليجيتين، إسرائيل هي الفاعل الإقليمي الوحيد المستعد لتهيئة الظروف اللازمة لاحتواء النفوذ الإيراني وردع إيران بشكل كافٍ عن اتباع سياسات توسعية تهدد بالعبث باستقرار المنطقة.

التهديدات الداخلية

نجح النموذج الأمني ​​الإسرائيلي في إظهار كيف يمكن للدول العسكرية ودول الرقابة تفكيك المنظمات المدنية بشكل فاعل، وخاصة مجموعات حقوق الإنسان، ووسائل الإعلام، ومنظمات المجتمع المدني التي تعمل على إرساء المساءلة السياسية. في العام 2021، اتهمت وزارة الدفاع الإسرائيلية ست منظمات فلسطينية بارزة للمجتمع بالانتماء إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. واستهداف إسرائيل لمثل هذه المنظمات سهل بسبب قانون مكافحة الإرهاب رقم 5776، الصادر في العام 2016، والّذي يمنح وزارة الدفاع الإسرائيلية السلطة لوسم أي منظمة بأنها جماعة إرهابية. ليس هناك صلة مباشرة للمنظمات الست المعنية بالجماعات الإرهابية، لكن قانون مكافحة الإرهاب لا يطالب السلطات بإثبات مثل هذه الصلة. تسعى هذه المنظمات إلى تحقيق مجموعة من الأهداف غير العنيفة، بما في ذلك السعي لتحقيق المساءلة في المحكمة الجنائية الدولية عن ممارسة إسرائيل للفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني، وتقديم المساعدة القانونية للسجناء الفلسطينيين المحتجزين إلى أجل غير مسمى في السجون الإسرائيلية من دون اللجوء إلى العدالة. ولتصنيفها كمجموعات إرهابية نتائج كبيرة لأنه يحرم بشكل فعال هذه الجماعات من التمويل والدعم من قبل المانحين والشركاء الدوليين، ويلوث عملهم ومناصرتهم.

الهدف الرئيس من نشر إسرائيل لقانون مكافحة الإرهاب للعام 2016 هو مواصلة عملية تفكيك البنية التحتية للمجتمع المدني الفلسطيني. وبغياب مؤسسة سياسية فلسطينية فاعلة وخاضعة للمساءلة، تظل منظمات المجتمع المدني في الواجهة الأمامية لجهود مكافحة الاضطهاد الإسرائيلي المستمر للشعب الفلسطيني. في هذه العملية، اعتمدت إسرائيل على برامج التجسس والأدوات التكنولوجية المتقدمة  بما في ذلك خوارزميات وسائط البحث وتقنيات التعرف على الوجوه. كما تم اختراق أعضاء المنظمات الست ببرنامج بيغاسوس للتجسس الّذي تُصَنّعه مجموعة إن. س. أو. الإسرائيلية. صُدِّر البرنامج على نطاق واسع إلى دول استبدادية، بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة  التي استخدمته أيضًا لاستهداف الشخصيات العامة والصحفيين والنشطاء.

تُشَكّل قدرة إسرائيل على إعاقة جهود السكان الخاضعين لسيطرتها عن التعبئة أو التنظيم من أجل حقوقهم، في الوقت الّذي تظهر فيه تحركاتها على أنها إجراءات ضرورية للدفاع عن النفس يجب على أي دولة ديمقراطية أو حضارية أن تتخذها، نموذجًا جذابًا للحكام الدكتاتوريين في الخليج وأجزاء من الشرق الأوسط الكبير. بعد الثورات العربية الفاشلة في العام 2011، بحث الحكام العرب بشكل متزايد عن طرق لتهدئة شعوبهم المضطربة من دون أن يتعرضوا لردود فعل دولية عنيفة أو يثيروا نوعًا من الاضطرابات المدنية التي أجّجت الصراعات في سوريا وليبيا. النموذج الذي اتبعته دولة الإمارات العربية المتحدة وكانت رائدة فيه، على سبيل المثال، يتركز في الجمع بين الرواية المواجهة للخارج عن التقدم والتحديث والنمو الاقتصادي مع التركيز الدقيق على قدرتها على اكتشاف المعارضة والرد عليها، والحد من التحديات المحتملة لسلطة الدولة، والحفاظ بشكل عام على قبضة حديدية. وكذلك الحال في البحرين أيضًا، على الرغم من أن المنامة تواجه تحديًا أكبر من حركة المعارضة الّـتي تُعَد أوسع وأكثر تنسيقًا.

نموذج للخليج وغيره

باعتماد النماذج الأمنية المماثلة، أصبح زعماء الخليج يقلدون بعض الخطاب الذي يستخدمه نظراؤهم الصهاينة. تحدث المسؤولون الإماراتيون عن دولتهم على أنّها نهضت من الصعاب، وأنّه بإمكانها -على الرغم من كل المصاعب- الحفاظ على ازدهارها في منطقة مصممة على العنف والحرب: "إنها فيلا في قلب الغابة". وتكمن قوة هذه الرواية، كما أثبتت إسرائيل بنجاح، في أنها تناشد النظرة العالمية الليبرالية الغربية التي تتشدق بحقوق الإنسان والتعايش الديني والديمقراطية في الوقت الذي تستخدم فيه أجندات سياسية صارمة وواقعية ومحلية وخارجية مبنية على الأمن والعسكرة (بالإضافة إلى الرأسمالية العنصرية وعدم المساواة).

يُشَكّل تعزيز قدرة إسرائيل على تصوير نفسها على أنها معقل غربي للحضارة في منطقة بربرية، وباعتبارها دولة ديمقراطية حتى مع حفاظها على نظام الفصل العنصري، آلية دبلوماسية قوية تكررها دول الخليج، مع وجود اختلافات طفيفة. على الرغم من عدم ادعاء أي من دول الخليج أنها دولة ديمقراطية، إلا أنها تضيق سبل المشاركة السياسية في حين تتبع سلسلة من الإجراءات التنازلية لتعزيز التحرر الاجتماعي. وتشمل الإجراءات المماثلة إصلاح القوانين في مجالات مثل الطلاق والميراث والمساكنة قبل الزواج، وضمان حصول المرأة على حقوق أكبر، واتخاذ خطوات لتشجيع وجود مسيحي ويهودي أكثر وضوحًا في دولهم. وتضيف هذه الإجراءات فائدة تتمثل بجذب الطبقة السياسية الغربية الحريصة على دعم نوع القيادة التي تعتبرها ثقلاً موازنًا للتطرف الديني. نما نفوذ الإمارات في الولايات المتحدة بشكل كبير خلال العقود الماضية، ومثل إسرائيل، زاد من قدرتها على التأثير على صناع السياسة الأمريكيين والأوروبيين للعمل لصالحها.

رؤية مشتركة

بالإضافة إلى هذه القضايا، تتشارك كل من إسرائيل والإمارات العربية المتحدة الهدف الطموح لقيادة مسار الشؤون الإقليمية، بغض النظر عن التيارات المتغيرة في السياسة الخارجية الأمريكية أو الضغوط الأوروبية. من وجهة نظر الخليج، يُعَد الخوف من انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة ووجود إيراني أكثر جرأة أحد الدوافع الرئيسية للتطبيع، وهو الخوف الذي يغذيه تمحور إدارة أوباما نحو آسيا وزاده التصور بأنه حتى إدارة ترامب لم تتجاوب بشكل كافٍ مع مخاوف دول الخليج. منذ العام 2011، كان الزعماء يجمعون هيكلًا إقليميًا جديدًا للثورة المضادة التي تنظر إلى إسرائيل على أنها وكيل محتمل للوجود الإقليمي للولايات المتحدة. في حين كان يتم التأسيس لهذا الهيكل وتكوينه منذ فترة طويلة، أجبر التضامن الشعبي مع النضال الفلسطيني داخل العالم العربي الزعماء الرسميين على التوقف عن دفع علاقاتهم مع إسرائيل إلى العلن. وراهنت دول الخليج على عدد من العوامل أبرزها تقلص أهمية القضية الفلسطينية لجيل الشباب، وقدرتها [الدول الخليجية] على ضبط أي معارضة مدنية في حالة ظهورها؛ وحقيقة أن الفوائد الاقتصادية والأمنية الناجمة عن التطبيع سوف تفوق بكثير أي إزعاج محتمل يسببه المجتمع المدني، من وجهة نظرها. بالنسبة لإسرائيل، يفيد التطبيع مع الدول العربية في تقليص الحاجة الملحة للتوصل إلى أي حل سياسي مع الفلسطينيين أو إنهاء الاحتلال.

تبدو مثل هذه التحالفات المُؤَمّنة جذابة بشكل متزايد لكلا الجانبين في حقبة أزمة عميقة عندما يبدو أن النظام العالمي الليبرالي الغربي ينهار تحت وطأة تناقضاته وقيوده. في الوقت الّذي تواجه فيه الولايات المتحدة وأوروبا صعود الحركات الرجعية التي تهدد بانهيار أنظمتها الديمقراطية من الداخل وتكافح دول الشرق الأوسط للنجاة من آثار الحرب الأهلية والفساد الطويلي الأمد، تُبنى تحالفات التطبيع على المنطق القائل إنّ نهجًا أكثر أمنًا لا يُعَد ضرورة فحسب، بل يُشَكّل طريقًا قابلًا للتطبيق لنوع الازدهار والاستقرار الذي كانت الديمقراطية الليبرالية نفسها ذات مرة وعدت به. وفي حين تحدّت الثورات المدنية العربية في العام 2011 النماذج الاستبدادية السائدة في جميع أنحاء المنطقة، تراهن كل من دول الخليج وإسرائيل على بناء نموذج أقوى وأكثر مرونة يمكنه استباق أي تهديد في الأفق والنجاة منه، سواء كان من معارضة الداخل أو من معارضة الخارج.

النص الأصلي