لطيفة الحسيني: البحارنة يكسرون اضطهادهم ويُصدّرون عزاءهم في عاشوراء
لطيفة الحسيني - 2023-08-03 - 11:40 ص
مرآة البحرين (خاص):
لا يُصبح الباطل حقًا ولو ملأ أصحابه الأرض نفاقًا. هذه هي حال البحرين مع الكذب الفاقع الذي تمارسه السلطة عند كلّ موسم عاشورائي. تنسِب لنفسها نجاحه باعتبارها المُفضِلة على أهل العزاء.
تملِك السلطة كلّ وسائل الإعلام التي توجّهها كما تشاء، تروّج عبرها الكذب المكشوف والمسرحية المكرّرة سنويًا: التسامح الديني والتعايش والانفتاح. عناوين برّاقة لدعاية تستهدف بها الرأي العام الأجنبي البعيد عن الواقع في المملكة.
من تابع احتضان عشرات البلدات والقرى البحرينية لموسم الأحزان يتلمّس سرّ تميّز أصغر بلد خليجي وعربي من بين جميع الدول المُسلمة في خريطة الإحياء الحسيني.
بدا واضحًا للبحرينيين في الداخل وكلّ من واكب من الخارج أن التحضير الجيّد والمحترف للمناسبة الأليمة والإخلاص لسيّد الشهداء (ع) وكُربته دفعا أولًا وأخيرًا الى تفوّق الإحياء البحراني على ما عداه من الجنسيات في الإقليم ودول الجوار.
جيش العزاء
باكرًا، استعدّ أهل العزاء لشهر محرم الحرام. باكرًا أطلق العلماء الشعار العاشورائي المركزي "القول منا قولك". عنوانٌ التزم بهم كبار الشعراء والرواديد وخطباء المنبر الحسيني. الجميع مشى به، ونَظَم القصائد، وجهّز مضامين الخطابات الدينية والاجتماعية والتربوية والتوعوية.
في المقابل، تكاتف الأهالي في كلّ المناطق لجمْع ما تحتاجه المآتم والحسينيات والمجالس من تجهيزات لوجستية وفنية. اسودّت الطرقات وعلت اللافتات الحسينية. أضحى شارع الإمام الحسين (ع) في المنامة كربلاءً حقيقية. المواكب تسلّحت بعتادها الصوتي. رُفعت راية أبي عبد الله (ع) في الساحات.
للبركة في المآتم البحرينية حكايةٌ أخرى. موائد على حبّ الحسين (ع) تمتدّ ولا تنتهي. التنويع من حيث ما يُوزّع تجاوز المعقول أو المتوقّع. أطعمة مُختلفة تبدأ من "العيش" وعدد من الأطباق البحرانية وتمرّ بالمشروبات و"الريوق" والكرك والشاي المتواصل على مدار الأيام العشرة، وقد ترى في بعضها توابل توزّع لأنها بوركت بذكر آل محمد (ص). مضائف وعشرات "القدور" أطَعَمت شيعةً وسنّةً على حدّ سواء في بعض الأماكن.
وإظهارًا لكلّ هذا الجهد الجبّار، تولّى إعلام المآتم طيلة الموسم نقل الصورة إمّا بالبثّ الحيّ للخطباء، وإمّا بالتغطية الغزيرة عبر صفحات الانستغرام. الرواديد أمسوا إعلاميين أيضًا. حساباتهم لم تهدأ. بالموازاة، قرّاء العزاء، المشايخ والسادة في البحرين انتشروا بشكل كثيف على الانترنت. شُهرة تعدّت حدود البلد ساقها إليهم حبّ الحسين (ع). لم يبقَ أحد منهم بلا حسابٍ على وسائل التواصل الاجتماعي يُعرّف الآخرين على صوته ونَعيِه وأسلوبه، فبات نشاط المُخرجين والمُصوّرين والمُعدّين يُضاهي نشاط المُشرفين على المجالس.
المواكب عالمٌ قائمُ بحدّ ذاته. لعلّه أكثر ما يميّز الإحياء البحريني. ينطلق منه الهواة والأصوات الشبابية، فيغدون أسماءً لامعة في اللطم والنعي تُدرَّس في أسلوب الرواديد الحسينيين. هل هناك من لا يتناقل في البحرين مقاطع للشيخ حسين الأكرف في بداياته بين المواكب؟ وكذلك بالنسبة للرادود عبد الأمير البلادي والحاج صالح الدرازي اللذيْن كبُرا بين المواكب ولا زالا خادميْن حسينييْن ينشطان في كلّ محرم.
المُبادرات الاجتماعية تكثّفت كذلك على حبّ الحسين الشهيد (ع). بعضها تربوية لمؤازرة طلاب في امتحاناتهم، والبعض الآخر لمساعدة عائلات مُتعفّفة بجهودٍ فردية صرف، لم تُدعم من أيّة هيئة رسمية أو أوقاف جعفرية، والأهمّ الخدمة الحسينية التي بسطت نفسها بقوّة في المجتمع البحراني. الكلّ يريد أن يكون خادمًا، بأية طريقة كانت ومهما كلّفت من تعب، المهمّ تحصيل الأجر والثواب.
كوكب السلطة
على الضفّة الأخرى، السلطة تجهّزت على طريقتها. بالتهديد والوعيد الذي تهيم به. قُبيل حلول شهر محرم، أوعزت الى الأوقاف الجعفرية بالطلب من المآتم عدم تسييس الخطاب العاشورائي. وعلى عرش التصريحات المُستفّزة، تربّع وزير الداخلية راشد بن عبدالله آل خليفة، فكانت كلمته الشهيرة بأن لا أهلًا ولا سهلًا بمن أراد القدوم الى البحرين للسياحة الدينية، فلا حاجة لاستيراد رواديد والبحرين لديها ما يكفي منهم، ما تسبّب بموجة من الاستياء العارم بين شيعة البحرين الذي يفخرون بوصف بلدهم بـ"كربلاء الثانية".
مع جريان الموسم، تنقّلت الأجهزة الأمنية بين القرى ليس لحماية الحسينيات وطمأنة قاصديها، بل لإزالة الرايات الحسينية تارة من السنابس، وأخرى من مدينة حمد والمالكية والمرخ وسلماباد وسار والغريفة وباربار وكرزكان وأبو صيبع والشاخورة.
خلال العشرة الأوائل من محرم، أضافَت السلطة حلقةً رخيصةً في مسلسل الاضطهاد الديني الذي يوجّه حصرًا الى أبناء الطائفة الشيعية في البحرين، مع مُقايضة من أوقفتهم لرفعهم اليافطات العاشورائية بضرورة تسليم هذه الرايات مقابل إخلاء سبيلهم، الأمر الذي أغضب أهاليهم كثيرًا.
تحت عنوان رفع العتب، وجّهت وزارة الداخلية رجالها للقيام بجولة خجولة على الفعاليات العاشورائية ليلًا كما ظهر في أحد المقاطع التي نشرتها وسائل الإعلام المحلية. وعلى المنوال نفسه، مشى وفد الداخلية والأوقاف الى أحد المآتم ليُظهّر في الإعلام الرسمي على أنها زيارة "تسامحية" مع الشيعة.
استضعفت أجهزة السلطة المظاهر العاشورائية اذًا. رصدت العلماء جيّدًا، وقرّرت أن تختم الموسم باستدعاء العلامة الشيخ محمود العالي على خلفية خطبته العاشورائية، في إجراء لم يوضع سوى في خانة التضييق على مشايخ الشيعة، ولاسيّما بعد أن أزعجها كثيرًا موكب كبار العلماء في ليلة العاشر في عزاء المنامة المركزي وهو يدوس على علم كيان الاحتلال.
على طريقته، اختار الملك حمد بن عيسى أن يُنهي الموسم العاشورائي. شكر الوزارات على نجاح مراسم إحياء ذكرى عاشوراء، وكذلك فعل ولي العهد حمد بن عيسى. لكن مهلًا! هل يعرف الحاكم أن السواد الأعظم من الشعب لا يصدّق هذا الدور لأنه ليس واقعًا من الأصل؟ هل ظنّ الحاكم أن العادة السنوية التي يوزّعها على المآتم (لا تعدو كونها "خروفًا" واحدًا) هي التي أطعمت الآلاف في الحسينيات؟
وعليه، يُحسب للمآتم وخدّامها الإحياء العاشورائي المميّز خليجيًا وعربيًا وإسلاميًا. يُصَدّر العزاء البحراني بفعل جهود لا تُثّمن، على الرغم من محاصرة السلطات لشيعة المملكة وتنكيلها بحقوقهم ليلًا نهارًا.