» رأي
خٍرافُ المَلِك: هل من أُفُق لحلِّ الأزمة في البحرين
عباس المرشد - 2012-11-21 - 10:43 ص
عبّاس المرشد*
جرت عادة الديوان الملكي في البحرين، منذ العام 2000، بأن توزَّع مجموعة من الخراف على المآتم الشيعية بمناسبة عاشوراء. وقتها وصف أحد الكتاب الخطوة بأنها خطوة تتضمن أبعادًا حضارية ورؤيةً عميقة في معالجة الانقسامات الطائفية، وطريقة جيّدة لتفادي حالات النزاع المتأزّمة بين النظام السياسي والطائفة الشيعية في البحرين. خطوة التقرب للطائفة الشيعية كانت الشغل الأكثر أهمية بالنسبة للملك الجديد، آنذاك، والحالم بقيادة سياسية مختلفة، فمن دون موافقة القيادات الشيعية على مُسوَّدة ميثاق العمل الوطني، لن يكتب له النجاح مطلقًا. من هنا جاءت دبلوماسية كرة القدم، كوسيلة ضمن وسائل متعددة، لكسر جمود العلاقة المتوترة بين الطائفة الشيعية والنظام، بعد دخولها في صراع محتدم ابتدأ نهاية 1994، فيما يُعرف بالانتفاضة الدستورية، ولم تكد تنتهي إلا في 2001، بعد التصويت بالموافقة على ميثاق العمل الوطني.
من جانبٍ آخر، فإن الإحجام عن الاستمرار في ما هو قائم، يحمل دلالة على توتر وصراع حقيقي. فقد بدأ النظام في تدشين علاقته مع الطائفة الشيعية بأمور بسيطة جدًا، واعتبرها نوعًا من حسن النوايا، وهو الآن بعد اشتداد محنته يراجع كافة خطواته، ويقرر، بكل تلقائية، أنه غير معني، وغير مهتم أساسًا، بتلك العلاقة، وأنه على استعداد للدخول في مواجهة وتدمير كل رمزية الطائفة الدينية والمذهبية.
يتذكر البحرينيون جيدًا كيف اثمرت العلاقات العامة، التي أدارها الأمير آنذاك، في تقوية الالتفاف الشعبي حوله، وحَمْل سيّارته على الأكتاف، في زيارته التاريخية لجزيرة سترة، وكيف تبدّل خطاب أغلب القيادات السياسية من خطاب المواجهة والتحدي، لخطاب المُصالحة والتكامل. وقتها أيضًا طرح أحد القيادات السياسية مفهوم المعارضة المتكاملة مع النظام كبديل للمعارضة الصاخبة والمتحدّية. من ضمن ما يتذكره البحرينون جمعيًا، وبشكلٍ عفوي، توقيع الأمير على ورقة التفاهم في منزل السيد علوي الغريفي بحضور قيادات دينية بارزة تمثل اليوم جزءًا مهمًا من المعارضة. في السنة الأولى من ميثاق العمل الوطني كانت الأصوات المُنكِرة لما يحصل منخفضة جدًا، ونادرًا ما كان أحد يصرّح بأن ما حدث لا يمثل سوى انفراجٍ أمني، وأن الحل السياسي سيكون بعيدًا عن ورقة التفاهم الموقّعة من قبل الأمير، وأن مطبخ التعديلات الدستورية يحضّر لمشهدٍ سياسي مختلف تمامًا عن مشهد التوافق الوطني الحاصل في 2001.
لقد نجح الديوان الملكي في إدارة العلاقات العامة مع القيادات السياسية والقيادات الدينية المعارضة، وخلق منطقة رمادية بين النظام والطائفة الشيعية، أو هكذا كان يبدو الأمر ظاهريًا.
في مايو 2005، ظهر تقرير لمنظّمة الأزمات الدولية، تحت عنوان التحدّي الطائفي في البحرين، وأشار التقرير إلى أن الوضع السياسي والاجتماعي يعيش تحت وطأة الانفجار الطائفي بفعل السياسات المتّبعة من قبل النظام في البحرين. وأرجع التقرير أسباب التوتر الطائفي لمجموعة من الأسباب أهمّها دستور 2002، وقانون 56، وبقاء المظالم، والتمييز ضد أفراد الطائفة الشيعية. إشارات منظمة الأزمات الدولية كانت واضحة ودافعة لأن يظهر في العام 2006 أشد التقارير خطورة وأشدها وضوحًا في فضح واقع التمييز الطائفي، إذ أصدر مركز البحرين لحقوق الإنسان تقريرًا حول واقع التمييز الطائفي في البحرين من بعد إقرار ميثاق العمل الوطني 2001، وكشف التقرير أن التمييز الطائفي أخذ في الارتفاع والانتشار بشكلٍ أسرع وأشد وتيرة من قبل 2001. خطورة تقرير مركز البحرين لحقوق الإنسان تمثلت في مواجهة دعايات الديوان الملكي والعلاقات العامة التي يتحرك على أساسها، فالتمييز الطائفي في عَشْرِيّة ميثاق العمل الوطني الأولى هو الأعلى والأكثر وضوحًا، منذ إنهاء قانون حكم المقاطعات وقانون العمل بالسخرة وضربية الرقبية المفروضة على الطائفة الشيعية قبل 1923، عندما تدخلت الإدارة البريطانية لعزل الحاكم آنذاك عيسى بن علي، وتنصيب ابنه حمد بن عيسى بديلًا عنه، مقابل تعهده بالقيام بإصلاحات إدارية تخدم الإدارة البريطانية، وتعدّل من هشاشة الأوضاع الداخلية في الوقت نفسه.
الصدمة التي أفاقت على نتائجها نُخَبٌ عديدة هي أن عهد الميثاق هو الأشد طائفية. بطبيعة الحال كان مصير التقرير هو التشكيك في صدقية أدواته ومعلوماته، إلا أن قيام المستشار السابق للديوان الملكي، صلاح البندر، بتسريب ما عُرف بتقرير البندر، أكّد على وجود رؤية وتوجّه صريح لإضعاف المعارضة السياسية، وإضعاف الطائفة الشيعية بالذات، ومحاولة اختراقها بهدف تقوية الاتجاه السني وتمكينه من أدوات الدولة بصورة أكثر منهجية.
تُفضي هذه الوقائع لاستنتاج طبيعة استراتيجية الاحتواء المزدوج التي اتبعها النظام في البحرين للتعامل مع الغالبية الشيعية، والنتائج التي لم يكن يتوقع حدوثها، أو بالآثار غير المتوقعة لانتهاج استراتيجية الاحتواء المزدوج للاحتقان الطائفي، في مجتمع ترتفع فيه درجة الحساسية السياسية، ويخضع لمتغيرات إقليمية عالية التوتر والتهديد. من حيث مُحدِّدات التعامل مع الطائفة الشيعية كطائفة وطنية تمثل غالبية المواطنين ،انتهج النظام في تعامله معها مسارين منفصلين:
المسار الأول: الإبقاء على خيوط التواصل واستبعاد القطيعة التامة مع كافة القيادات الشيعية، خلافًا لما كانت عليه السياسة المتّبعة سابقًا، وهي تقريب شخصيات موالية والإغداق عليها مقابل القطيعة مع الشخصيات المعارضة ورفضها. وهذا نجده في تعامل النظام مع مسيرة لبيك يا حسين، التي أصيب فيها الشيخ عيسى قاسم والسيد عبدالله الغريفي، والتي تم على إثرها عزل وزير الداخلية واستبداله بالوزير الحالي، كما نجدها أيضًا في اللقاءات المتعدّدة التي نظمها الديوان الملكي مع القيادات الدينية الشيعية في قصر الصافرية. وفي نماذج أخرى تعكس طبيعة الازدواج المتبع في هذه السياسة، نجد قانون الأحوال الشخصية وقانون كادر الأئمة وقانون الخطاب الديني تُستخدم كأدوات خفيّة لعقد نوع من الهدنة غير المعلنة بين النظام والقيادات الدينية، واستخدامها كأدوات تَقَرُّب وعقد تفاهمات بغرض تمرير إجراءات سياسية معينة. طبعًا يمكن القول بأن هذه الأدوات تمتلك استقلالية منفصلة عن سياسية الاحتواء المزدوج، وتوظَّف أساسًا لأغراض سياسية واضحة، وهذا له محل آخر في التحليل العام لسياسة النظام.
المسار الثاني: المضي قُدُمًا، بشكلٍ جلي وشكلٍ خفي، في إقصاء شخصيات وكفاءات الطائفة الشيعية لصالح شخصيات موالية محسوبة على الطائفة الأخرى. مثل هذه السياسة تطلّبت الجهد الواسع في توسيع عملية التجنيس السياسي ورَفدِه بالمكوّنات المطلوبة، كما اقتضى ذلك اللعب في توزيع الدوائر الانتخابية، بما يخدم عملية تسويق الأكثرية السياسية، وإخفاء الأغلبية العددية الفعلية. ومن المدهش أن يُسِرَّ أحد وزراء الحكومة لأحد المطّلعين أنه لا يواجه صعوبة في تأمين فرص عمل لأفراد الطائفة الشيعية، حيث يمكن استيعابهم في الوظائف الاعتيادية، إلا أن الصعوبة تمكن في نوعية طلبات التوظيف التي تتقدّم بها الكتل البرلمانية الموالية، وتحديدًا الإخوان والسلف، وإصرارهم على إيجاد شواغر وظائف عليا لتوظيف المنتمين إليهم أو المحسوبين عليهم. وهذا ما يفسر فشل رئيس تجمع الوحدة عبد اللطيف المحمود في دعوته لأفراد الطائفة السنية للعمل في المهن الحرفية واليدوية بُغية كسر احتكار الطائفة الشيعية لها.
نتيجة كل ذلك كانت ثورة 14 فبراير 2011 واستمرارها لأكثر من 18 شهرًا دون أن ينالها الكلل أو الملل، فما حدث في فبراير 2011 هو دعوة صريحة لحذف الخلل القائم في المواطَنة، بعد التأكّد من فشل الإصلاح والتقويم. النظام بدوره أدرك أن الهُدنة مع مكونات المعارضة السياسية غير مجدية، وغير كافية لضمان تحقيق مصالحه القائمة على الاستئثار، والحظوة، والقرب من المركز، والرضا عنهم.
في السياق ذاته، تبدو إجراءات وزير الداخلية، في خصوص التعدي على مظاهر عاشوراء وقيام مراكز الشرطة بمراقبة أنشطة الخطباء والرواديد، مفهومة في سياق قطع العلاقات مع الأغلبية الشيعية، وجعلها تعيش مأزق الكارثة، اعتقادًا أن ذلك كفيل بقيام قياداتها بتقديم تنازلات سياسية وترك مواقف سياسية معلنة. المثير هنا أن أسئلة المحققين لا تدل على وجود قضايا حقيقية، سوى إفساح المجال لمزيد من محاكم التفتيش التي راجت فترة السلامة الوطنية.
على ضوء ذلك، فإن تقديرات الإدارة الأمريكية بقدرتها على الوصول لتسوية قبل نهاية العام الجاري تبدو خائبة، وإن أفق التوصل حتى لأنصاف الحلول تبدو منعدمة، أو لا تحظى بمؤشرات جادة، وهو ما يعني استمرار الأوضاع التسلطية لفترة أطول، الأمر الذي قد يعني أيضًا مزيدًا من التعسف، ومزيدًا من الإجراءات القمعية الهادفة لتزايد الوضع الكارثي للمعارضة وإلحاق أكبر الخسائر بها، لجلبها لطاولة التفاهم على أقل من أنصاف الحلول.
* كاتب من البحرين.