» رأي
لماذا يُقتل المرتزقة فقط؟
عباس المرشد - 2013-02-17 - 9:11 ص
عباس المرشد*
تُشدّد الدعاية الرسمية والدعاية الموالية على وجود عنف وإرهاب تقوده الجماعات السياسية المعارضة في البحرين. مُفردة الإرهاب، التي شُغل العالم بها، أصبحت، وفق الطبعات الباهتة من الإعلام الرسمي، تعني كل فعلٍ غير مرضٍ عنه، أو كل فعلٍ مزعجٍ للنظام. التفسير الوحيد الذي يقف خلف هذا الهوس بأن تكون البحرين تعيش أجواءً إرهابية هو سلمية الحراك السياسي المُفرط فيها، مقارنةً بالحراك السياسي الذي عاشته الدول العربية الأخرى، والعديد من الدول التي تشهد احتجاجات دورية، بما فيها بعض الدول الأوربية. لذا يأتي توظيف مفهوم الإرهاب والعنف في سياق محاولة قلب المعادلة، والانتقال من موقع الجلاد لموقع الضحية، فبدلًا من الحديث عن إرهاب الدولة وعنف أجهزتها الأمنية، تتحول أجهزة الإعلام الرسمية وجوقتها الموالية للحديث عن عنفٍ وهمي، وعن إسفافٍ في وصف الإرهاب وتشخيص الإرهابيين الذين لا وجود لهم على أرض الواقع.
مستوى الإسفاف والتعاطي الموظَّف سياسيًا وأمنيًا كان واضحًا في تغطية النيابة العامة على عنف الدولة الرسمي وإرهابها، ليس في إقفال وغلق القضايا المتعلقة بالتعذيب والقتل داخل السجون فقط، وإنما شملت هذه التغطية حوادث القتل في الشارع، والتي كان ضحيتها أطفالٌ لم يبلغوا سن الثامنة عشرة، وفي حوادث العنف المباشر الذي تمارسه عناصر وزارة الداخلية، من استخدام القوة المفرطة، أو سحل المتظاهرين وإحداث عاهات جسدية لديهم. النيابة العامة، المُصنَّفة كجهة قضائية، اعتبرت قتل كلٍّ من الشهيد حسام الحايكي ( 16 سنة) وعلي نعمة (17 سنة) مُبرَّرًا ودفاعًا عن النفس، وقام الإعلام الموالي بالترويج لحادثة قتل الشهيد حسام على أنه قتلٌ لإرهابي ونهايةٌ مفرحة لحياته.
التفسير السابق يبقى في مجمله تفسيرًا سياسيًا، يُفسّر حدّة الصراع بين النظام وقوى المعارضة، ويبيّن حجم الاستهداف الذي يقوم به النظام لمهاجمة معارضيه، أي أنه يبقى تفسيرًا وحيدًا لا يمكن استخدامه دون التعمّق في أبعاده الأساسية، وهي علاقة النظام بمواطنيه. ومن وجهة، نظري فإن البعد الأخير هو الأهم، لأنه يعكس طبيعة العلاقة بين النظام والمواطنين وحجم المفارقة بينها، إذ لا يمكن قبول توصيف الإعلام الرسمي لأكثر من نصف المواطنين بالإرهابيين والمخرّبين، واعتبار ذلك تكتيكًا في سياق الصراع السياسي المحتدم منذ عقود طويلة.
لقد تعوّدت الأنظمة الاستبدادية على وصف معارضيها بالمخرّبين، والخونة، والمرتبطين بأجندات خارجية، وغيرها من الأوصاف القادحة، في وقتٍ يمكن التأكد من صغر حجم تلك لمعارضة مقارنةً بعدد سكّان الدولة. الوضع القائم في البحرين يحمل وجهًا من وجوه الأنظمة المستبدة، من حيث الالتجاء الدائم لتسميم مواقف المعارضة وشيطنتها أمام الرأي العام المحلي والخارجي، لكنه سلوك يفتقد للمصداقية، عندما يتم الحديث عن أكثر من 300 ألف إرهابي مجند لأجندة إيرانية وشبكات عابرة للوطنية، في ظل تعداد سكاني لا يتجاوز 700 ألف.
وبالتالي فنحن أمام نظامٍ منفصل تمامًا عن قاعدته الشعبية، ويقوم في كل مرة بنعت مواطنيه بالإرهاب والتخريب لا لشيء سوى أنهم غير راضين عن سلوكياته، إن لم يكونوا غير راضين عن وجوده أصلًا، وهو ما يثير علامات استفهام جدية حول قدرته على البقاء طوال هذه السنوات الطويلة.
جزء من فهم علاقة النظام بالمواطنين في البحرين يقوم على التمعّن في ظاهرة قتلى عناصر وزارة الداخلية، الذين تُعلن عنهم بين فترة وأخرى، فهؤلاء القتلى جمعيهم غير بحرينيين، وبحسب الوثائق الرسمية لهم، فإن قتلى وزارة الداخلية جمعيهم من باكستان، ويبلغ عددهم منذ، 1994 حتى 2013، سبعة أشخاص فقط.
مقابل هذا العدد الضئيل من قتلى وزارة الداخلية يمكن الحديث عن أكثر من 200 شهيد، منذ 1994 حتى 2013، قُتلوا على يد عناصر وزارة الداخلية وقوات الجيش والحرس الوطني. وبالتالي فإن مقولة الإرهاب والعنف تتضح تجلياتها في أعمال وممارسات النظام، سواء من ناحية عدد القتلى، أو من ناحية الممارسات القمعية الأخرى، التي تتحدث عنها تقارير منظمات حقوق الإنسان بشكلٍ مُستفيض، آخرها تقرير لجنة تقصي الحقائق الدولية، التي وثّقت ممارسات ممنهجة في هذا الشأن.
ولعلَّ السؤال المثير للاهتمام الذي يُثار هنا هو لماذا يكون قتلى وزارة الداخلية من جنسيات غير بحرينية؟ وأين تقف هذه العناصر من هرمية القرار الإداري والأمني؟ وهل هي الصدفة فقط التي تقف خلف هذه النوعيات من العناصر الأمنية؟ أم أنّ الأمر يقع ضمن مقولة شيطنة المعارضة واستجلاب الدعم للنظام؟
من ناحية هيكلية، فإن العناصر البحرينية ( السنية/ القبلية)هي التي تقف في سلم القرار الإداري، وفي أسفل الهرم تقع فئات عديدة، وطيفٌ واسع من الجنسيات المختلفة، يغلب عليها الطابع الباكستاني (البلوشي تحديدًا)، والسوري (القبلي)، يُستخدَم العديد منهم في التعذيب والملاحقات الأمنية الطائفية، واليمني والهندي (عادةً ما يكونون عناصر شرطة عادية). وهذا يعني أن طبيعة التصادم والمواجهات تحدث بين الفئات الدنيا والمحتجين، ومع ذلك لم تفصح أرقام وزارة الداخلية عن وجود ضحايا لوزارة الداخلية أثناء المواجهات، بحكم الطابع السلمي لتلك التظاهرات.
يوفِّر هذا النمط من الاستراتيجية، القائمة على توظيف المرتزقة، وظيفتين على الأقل، يستغلهما النظام لصالحه؛ الوظيفة الأولى هي حماية نفسه من أي انقسام مجتمعي، إذا ما وفّر لنفسه حصانةً من مُكوِّن معيّن ضدّ مُكوّنٍ آخر، فمثل تلك التركيبة القائمة على تقديم المجهولين ضحايا، تمنع حدوث تصدّع في جدار الدعم القبلي أو السنّي الموالي. الوظيفة الثانية هي إمكانية حشر القوى المعارضة في خانة الفرز العنصري، من حيث تأليب الأجانب ضدّ مطالب الحراك السياسي من جهة، وتشجيع النزعات العدائية ضدّ الأجانب والجنسيات المشتغلة أساسًا في القطاع الأمني. فمثلًا يقف الرأي العام المحلي المعارض من الثورة السورية موقفًا مشكّكًا من شرعيتها ودعمها، انطلاقًا من أن النظام يستخدم العناصر السورية، القادمة من دير الزور ودرعا والبوكمال وغيرها من مناطق الاحتجاج الثوري في سوريا، يستخدمها بكثافة في قمع الحراك السياسي السلمي في البحرين، ويقدّمهم من ناحية العطايا على المواطنين، بعد منحهم الجنسية البحرينية. وهذا ما خلق حاجزًا نفسيَا وسياسيًا، حال دون التفاعل الحيوي مع الثورة في سوريا مقارنةً مع التفاعل الذي أبدته المعارضة مع مصر وتونس وليبيا واليمن.
أخيرًا، فإن إصرار النظام على تقديم أرقام لعناصر مجهولة، ومن جنسيات مختلفة، يُعفيه من أي مساءلة مجتمعية وقانونية عن مصداقية عملية القتل نفسها، بمعنى أنه لا أحد قادر على التأكّد من أسماء هؤلاء أو حقيقة ما يَفتَرِض النظام أنه يتعرض له من عنف.
في النهاية، فإن على النظام السياسي البحريني أن يُقدّم تفسيراتٍ منطقية فيما يخص استخدامه لعناصر أجنبية، كما أن عليه أن يقدم حُججًا سياسية مُقنعة، لما يفترض أنه إرهاب أو عنف، مقابل ما تمارسه عناصره من إرهاب ممنهج.
*كاتب من البحرين.