رحيل الدكتور سالم النويدري .. العملاق المجهول والفارس الذي لم ينكص

2025-03-28 - 12:09 م
بقلم د. سعيد الشهابي
طود شامخ يغيب عن هذه الدنيا، وفارس يترجل بعدما طالما صال وجال في الميدان بقلب صلب وبصيرة نافذة وأفق متطلّع للتغيير. منارة علم شامخة اتشحت طوال عمرها بالتواضع ورفض البهرجات الإعلامية والدعائية.
بعروج روح الأستاذ الدكتور سالم عبد الله النويدري إلى بارئها، يُسدل ستار أبدي على شخصية ساهمت بأسلوبها الخاص في عدد من جوانب الحياة في بلد ما يزال يبحث عن حرّيّته وهويّته. فلم يكن "الأستاذ سالم" رقما عاديّا في مسيرة شعب ما برح يناضل لتحقيق العدالة لسكانه الأصليين (سنة وشيعة) لكي تتوفر لهم فرصة حقيقية للشراكة السياسية بعد عقود من النضال الذي استمر أجيالا عديدة على مدى أكثر من مائة عام. بل ترك بصماته على تلك المسيرة من خلال دوره القيادي منذ نعومة أظفاره. وبرغم شيء من الإعاقة الجسدية، فقد كانت روحه كبيرة وأفقه واسعا. فلم يكتف بالنمط التقليدي في مجال العمل، بل تربّع في ذروة مشروع التغيير الذي طرحه روّاد العمل الإسلامي في البحرين من ستينيات القرن الماضي.
بدأ الفقيد حياته بالسعي لامتلاك الأدوات الفكرية التي تخدم خطه التغييري. وفي مقدمة ذلك حرصه على التعمّق في معرفة الإسلام سواء بالاطّلاع على الكتب والمؤلفات، أم المشاركة في الندوات والمؤتمرات، أم الالتحق بالدراسات الأكاديمية التي دفعته للتعمّق في البحث والتواصل مع أمّهات الكتب ومصادر الحديث والتاريخ. ولذلك تنقّل في تحصيله العلمي الإسلامي من بيروت التي تخرّج من جامعتها العربية في العام 1971 بليسانس في الآداب (قسم اللغة العربية)، حتى حصل شهادة دكتوراه الثقافة من الاكاديمية العالمية في لندن في العام 2003. وخلال العقود الثلاثة الفاصلة بينهما التحق بالجامعات المصرية ليحصل منها دبلوم الدراسات الإسلامية العليا من معهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة في العام 1976، ودبلوم عام في التربية ودبلوما خاص في التربية أيضا من جامعة عين شمس.
إنها مسيرة أكاديمية ساهمت في توجيه فكره الإسلامي خصوصا مع بحوثه المستمرة في بطون الكتب الإسلامية لاحقا. يضاف إليها تجربته الشابّة في ميدان العمل الإسلامي، ودوره الرائد في تأسيس المكتبة العامة للثقافة الإسلامية في المنامة في مطلع السبعينات، وهي مؤسسة كانت يومها معلما ثقافيا بارزا، أسّست لنمو جيل الصحوة الإسلامية الذي رفع راية الدين في حقبة كان النشاط فيها محصورا بالليبراليين واليساريين.
ربما السمة الأبرز في شخصية الدكتور النويدري نزعته للتربية. وهذا يتجلّى في مجالين من نشاطه: الأول انخراطه في مشروع فكري سياسي أيديولوجي يتبنى التربية كوسيلة لتكوين الكوادر القادرة على التغيير الاجتماعي والسياسي. وهذا الانخراط لم يكن ناجما عن حماس شبابي بل عن قناعة دفعته لاختيار موقع قيادي ضمن عمل سرّي استمر فيه ردحا من الزمن. كان يرى ضرورة إعادة صياغة عقلية الشباب وتطويرها إلى مستويات قيادية تبعث في النفس استعدادا لتحمّل المشقة والتعب من أجل تحقيق ذلك. وكان يعلم بوضوح أن تبعات ذلك كبيرة، وقد توصله إلى السجن كما حدث للعديد ممن انخرط في مشروع التنظيم الحزبي السرّي خصوصا في السبعينات والثمانينات. الثاني: انهماكه في مشروع التأليف في المجال التربوي حتى أصدر عددا من المؤلفات الهادفة لإعادة صياغة عقلية الجيل الناهض خصوصا في مرحلة الصحوة الإسلامية قبل اربعة عقود. وهي مؤلفات ذات مستوى رفيع من حيث التقعيد ورصانة اللغة والأسلوب.
هذه المؤهلات الأكاديمية والدوافع الأيديولوجية أفادته كثيرا عندما وجد نفسه مجبرا على العيش في المنفى. فعندما كانت الثورة الإسلامية في إيران في ذروتها كان يتلقى دورة تعليمية في بريطانيا، يومها كان له دور قيادي محدود، وساهم في تسهيل التواصل بين بعض كوادر العمل الإسلامي في البحرين وبعض العناصر الفاعلة في الثورة، انطلاقا من شعوره بضرورة دعم التغيير في إيران آنذاك. كما كان على تواصل مع التجمعات الطلابية في أمريكا وبريطانيا لمتابعة شؤون البلاد وما جرى فيها من اعتقالات واضطهاد ابتداء من سبتمبر 1979.
وعندما استهدفت حكومة البحرين التيار الإسلامي العام الذي يمثل سماحة الشيخ عيسى أحمد قاسم لولبه في نهاية العام 1983 كان خارج البلاد، مستمرا في دورات التدريب في بريطانيا. وكانت اتصالاته مع الرموز الناشطة مستمرة، وساهم في بلورة بعض المواقف والسياسات المرتبطة بتلك القضية. وكانت تلك الضربة مؤذية كثيرا لنفسه، فقد كان معنيّا لأنه كان عنصرا قياديا في الجهة التي كانت وراء الحراكات الشعبية التي أعقبت إعدام الشهيد السيد محمد باقر الصدر في أبريل 1980.
وكانت الضربة الأمنية التي حدثت في مطلع 1984 عاملا في اتخاذه قرار البقاء خارج البلاد حتى يتغير الوضع. وبعد فترة انتقل إلى سوريا ليبقى فيها حتى عودته إلى البلاد في العام 2000. وهناك كان له دور تربوي كبير. فقد قام بتدريس العلوم اللغوية، والدراسات الإنسانية في «حوزة الإمام» في دمشق، من منتصف الثمانينيات حتى مطلع التسعينيات. وشارك في تلك الفترة في عدد من اللقاءات والمؤتمرات الخاصة بالمعارضة. كما كان يتردد على مدينة قم للتواصل مع العلماء والنشطاء وطلاب العلم هناك، وللزيارة أيضا.
عندما كان في سوريا التي استقر بها في العام 1987 كان النويدري على علاقة عملية مع شخصين أساسيين هما سماحة السيد عبد الله الغريفي والسيد معتوق الماجد. فقد وصل السيد عبد الله إلى سوريا بعد إبعاده من دبي في العام 1984 التي كان يقيم فيها منذ العام 1973 بعد انتخابات المجلس الوطني في البحرين. ولم يعد إلى البحرين إلا في العام 2000، أي في نهاية الانتفاضة الشعبية التي كانت قد انطلقت في العام 1994. وتمكّن الاثنان من القيام باعمال فكرية ودينية مشتركة ومن بينها التدريس في الحوزة. أما السيد معتوق السيد هاشم الماجد فقد هاجر في العام 1984م إلى سوريا بعد ضرب جمعية التوعية الإسلامية وحزب الدعوة الإسلامية.
وهناك شرع في دراساته الحوزوية حيث تتلمذ على يد الكثير من العلماء، وحضر البحث الخارج عند سماحة المرجع الديني آية الله السيدمحمد حسين فضل الله. وقد التقيته في طهران في العام 1986 عندما ذهب لكي يضع الإمامُ الخميني رحمه الله العمامة على رأسه. وبعد وصول الدكتور سالم النويدري إلى سوريا أصبح الإثنان صديقين حميمين ومارسا أعمالا علمية وفقهية مشتركة. وكان الاثنان كذلك على علاقة مع المعارضين من التيارات الأخرى، ومن بينهم المرحوم عبد الرحمن النعيمي والأستاذ عبد النبي العكري وأحمد الذوادي، وكذلك مع رموز الجبهة الإسلامية مثل الشيخ محمد علي المحفوظ والمرحوم عبد الأمير العرب والسيد جعفر العلوي.
لقد كان النويدري عنصرا وحدويا، جادّا في مواقفه وعمله، مع قدر من الدعابة والطرفة، الأمر الذي جعله محبوبا لدى الآخرين. كما كان قلمه سيّالا، فكان له دور في الكتابات التنظيمية والسياسية بالإضافة لتركيزه على التأليف وإصدار الكتب.
لقد كان ارتباط الفقيد الدكتور سالم النويدري بوطنه متينا، نابعا من القلب. ولذلك كتب الشعر في حب الوطن. وألّف ما يمكن اعتباره ملحمة شعرية بعنوان: "التحف الأوليّة" وهي منظومة تربو على ألف بيت والتعليق عليها في “المعالم والمقامات الدينيّة في البحرين”. وألّف كتبا عديدة حول البحرين ونشر البحوث والدراسات التراثية والتاريخية في بعض المجلات المتخصصة.
ولعلّ من أهمّ ما قدّمه الدكتور النويدري من مساهمات تهدف للحفاظ على التراث العلمي والفكري والفقهي لأبناء هذا البلد عبر التاريخ موسوعة "أعلام الثقافة الإسلامية في البحرين خلال 14 قرنا" التي تتألف من 3 مجلّدات، وتؤرّخ لعلمائها منذ القرون الأولى للإسلام، وقد صدرت في العام 1992. هذه الموسوعة تؤكّد رسوخ هويّة الغالبية الساحقة من البحرانيين تاريخيّا وعلميّا، إذ تتصل بالإسلام الحنيف، قبل أن تصبح ضحيّة للاحتلال من قبل جهات أجنبية عديدة، وقع آخرها في العام 1783 م.
هذه اللمحة الخاطفة عن حياة الدكتور سالم عبد الله سالم علي النويدري تسلط الضوء على حياة امتدت ثمانية عقود تخلّلتها معاناة شخصية وسياسية، ساهمت في صقل ذهنه ووضعه ضمن قائمة المفكرين البحرانيين التاريخيين، فلم ينحصر اهتمامه بالتحصيل الأكاديمي بل توسّعت دائرة اهتماماته لتصل دائرة التأليف والتوجيه والمساهمة في السجالات الفكرية والتربوية التي شهدتها البلاد حتى الفترة الأخيرة من حياته. ولا يمكن تغافل دوره في مرحلة الشباب وخلال حقبة العيش في المنفى، وهو دور شدّ في أزر فصائل المعارضة آنذاك وكان سندا معنويا للناشطين. ومن المؤكد أن بقاءه في سوريا كان عاملا في إضفاء توجه حذر على شخصيته، إذ لم يُعرف ذلك البلد بتسامحه في مجال الحرّيّات العامة.
مع ذلك استطاع النويدي الاستفادة من سنوات بقائه هناك في مجالات ثلاثة: مد جسور التواصل مع الآخرين خصوصا السياسيين المنفيين من بني وطنه، استكمال دراساته الأكاديمية، وتأليف الكتب التاريخية والفكرية. لهذا ترك وراءه، بعد أن ودّع أهله وأصدقاءه وعالَمَه، تراثا فكريا وسياسيا كبيرا، سيبقى مرجعا للمهتمّين بالتعرّف على الحقيقة، واستيعاب ديناميكية التطور في بلد ما برح يكافح ضد محاولات تغيير هويّته وتاريخه وانتمائه.
الرحمة لروحه والدعاء من الله يتقبّل عمله ويسكنه فسيح جنّاته.
سعيد الشهابي
لمحة عن حياة المرحوم الدكتور سالم النويدري
الاسم :
سالم عبدالله سالم علي واسم الشهرة في الأعمال الكتابية سالم عبدالله النويدري.
مكان وتاريخ الميلاد:
مملكة البحرين – المنامة 1945.
الوظيفة:
اختصاصي مناهج اللغة العربية – إدارة المناهج – وزارة التربية والتعليم – مملكة البحرين (سابقا).
الحالة الاجتماعية:
متزوّج، وله سبعة أولاد (3 ذكور و 4إناث).
المؤهلات العلمية (الجامعية والعليا):
1. ليسانس في الآداب – قسم اللغة العربية – جامعة بيروت العربية – العام 1971.
2. دبلوم الدراسات الإسلامية العليا – معهد الدراسات الإسلامية – القاهرة – العام 1976 .
3. دبلوم عام في التربية – جامعة عين شمس – العام 1977.
4. دبلوم خاص في التربية – جامعة عين شمس – العام 1983.
5. درجة دكتوراه الثقافة (على مجموعة الأعمال المنجزة في الدراسات التوثيقية) – أكاديمية يونيفرسال universal academy – لندن – العام 2003.
الأنشطة والفعاليات في المجال التربوي:
1. كان عضوا في «اللجنة الاستشارية للغة العربية والتربية الإسلامية» في الفترة من 1979 إلى 1982.وكانت مهمتها العمل على تطوير المناهج الدراسية في مملكة البحرين.
2. العضوية في «لجنة تطوير مناهج التربية الإسلامية في المعهد الديني الجعفري» التابع لوزارة التربية والتعليم في مملكة البحرين.
3. المشاركة في عدد من الفعاليات واللقاءات التربوية محليا وإقليميا.
4. القيام بتأليف وتعديل الكتب الدراسية بمشاركة زملاء في القطاع التربوي في مملكة البحرين.
5. تدريس العلوم اللغوية، والدراسات الإنسانية في «حوزة الإمام» في دمشق، من منتصف الثمانينيات حتى مطلع التسعينيات من القرن العشرين، و«حوزة النور الأكاديمية» في مملكة البحرين حاليا.
الأنشطة والفعاليات العامّة:
1. إلقاء المحاضرات في المنتديات والمراكز الثقافية العامّة في البحرين.
2. كتابة الشعر وإلقاؤه في المحافل العامّة، ونشره في الصحافة المحلية.
3. نشر البحوث والدراسات التراثية والتاريخية في بعض المجلات المتخصصة.
المؤلفات:
1. أعلام الثقافة الإسلامية في البحرين خلال 14 قرنا (3 مجلدات) – العام 1992.
2. أسر البحرين العلمية: أنسابها، وأعلامها، وتاريخها العلمي والثقافي – العام 1994.
3. الكلمة السواء: بحث حول الإسلام والمسيحية – العام 2001.
4. إعداد وتحقيق «ديوان ديك العرش». نظم: الخطيب حسن آل ماجد – العام 2002 .
5. الشيخ جعفر أبو المكارم: حياته العلمية والأدبية والاجتماعية (معد للطبع).
6. مناطق البحرين: معجم جغرافي.
7. نظرات في لهجة البحرين وأصولها اللغويّة في المعجم العربي.
8. التحف الأوليّة: منظومة تربو على ألف بيت والتعليق عليها في “المعالم والمقامات الدينيّة في البحرين”.
- 2025-03-30بعض الكسبة!
- 2025-03-27الإرهاصات السياسية من 1970 حتى العقد الثالث من بعد 2000 (2)
- 2025-03-26تأثير الخصخصة على المؤسسات المحلية في البحرين وآليات انتعاش الاقتصاد المحلي
- 2025-03-20الصهاينة في البحرين.. لا جالية ولا من يحزنون
- 2025-03-19إرهاصات التغيير في الشرق الأوسط من 1970م حتى العقد الثالث بعد 2000م - (1)