الهوية المبعثرة.. الخليج نموذجًا

محمد منصور - 2025-04-04 - 8:17 م
الهوية والهجرة والاغتراب!
الهوية تمثل وجدانًا راسخًا في تاريخ الشعوب، ويشد عصبها بُعدها العقدي ونسيجها القومي، ويثير هذا الوجدان الخوف الذي يتهدد الكيان المسيّج، وتنكفىء الجماعات على نفسها إذا شعرت بالخطر، محاولة الاحتماء بنسيجها القومي وعصب تدينها، وتحاول تلك الجماعات المحافظة على أعرافها، تقاليدها، وحتى أساطيرها باعتبارها المكونات المتراكمة لإظهار الهوية، وقبل ذلك المحافظة عليها.
الهوية هي ذاكرة لا يمكن تجاوزها من التاريخ الذي ينتمي إليه الصاغر عن الكابر، ويحاول تمثّله ويعيش وجداناً في كل قلب من قلوب الجماعة، وكأنها منارات تهتدي بها السفن وهم يغيبون عن أوطانهم، فروح الجماعة لا تغيب عن الأفراد وإن هجروا أوطانهم أو بَعُدت بهم الشقة، لأنهم ينقلون ذاكرتهم إلى دار هجرتهم، ويشيدون مجتمعاً جديداً في الاغتراب والمهجر، ولقد كانت ظاهرة رائعة في الأدب العربي، تمثلت الوجدان في مهاجرها وعرفت بأدب المهجر وانحازت إلى لغتها دون أن تغترب عنها.
وإذا كان أدباء المهجر قد انطلقوا من الثقافة العربية وأنشأوا ما أنسوا به، فلقد انطلق الأستاذ إبراهيم العريض (شاعر بحريني 1908/2002) من الغربة إلى الذات، وهجر الاغتراب وانحاز إلى المتنبي وأبي تمام وترجم رباعيات الخيام ولم يتبدل إلى شاعر إنجليزي أو هندي. لقد عاد إبراهيم العريض إلى البحراني وبعث معه تراثاً شعرياً وقدّم رؤى نقدية وتحدث عن المتنبي بعد ألف عام، ولد ونشأ مغترباً لا يعرف العربية، ولكنه عاد إليها وشدّها إلى العروبة والإسلام.
أزمة الهوية الخليجية والمشيخات!
لكن الهوية اليوم تمر بأزمة اغتراب ماحق، يمحق فيها كل معالم الانتماء، ويحل مكان أصداء التاريخ عروبة وديناً ثقافة أخرى، وهي الاستهلاك والاستلاب والضياع والمسخ، إنها ثقافة القطيعة التي كانت مسرعة إلا في مساحة موجزة، فلقد فعل حكم المشيخات فعلته في اختزال الحقيقة في هذه السلطة وهذا الحكم، وحكم المشيخات بعد الجيل الثالث تقريباً، صار ينشد إلى مساحات أخرى غير هويته، وإلى وجدان آخر غير معالم هذه الهوية.
إنها ثنائية القطيعة مع التراث والاغتراب، وهي هوية تنحو نحواً يحافظ على نظام من الحكم عرف بـ(المشيخات)، وإذا شئنا في قراءة تاريخ هذه المشيخات أو نشأتها، فإنها وعلى الرغم مما يشوبها من خلل الوجود، وطبيعة النزعة القبلية القائمة على الطبقية والاستبداد، ومع كونها مرغمة على تحالفات غربية مصادرة، إلا أنها عرفت كيف تقارب هذا الواقع، وتحافظ على وجودها، وبعد الاستقلال النسبي اتجهت نحو مستشارين يساعدونها في بناء الدولة على نحو مدني في الاتجاه المادي، وحافظت حتى حين على التراث، وبواسطة مستشارين استعارتهم من الدول العربية، مثل المصريين واللبنانيين وقليل من العراقيين.
لكن هذه المشيخات كانت تتحدث بلغة -والناس على دين ملوكهم- وهذه اللغة لا تمثل الفصحى بل إنها متشظية من واقع قبلي طعّمه وجود المستشارين، وتأثرت به هذه اللغة وتأثر بها، فجاءت اللغة المنتشرة بين مشيخات الخليج لغة ليست بالفصيحة، وسَطَتْ على الإعلام وانتشرت فيه -وأقصد الإعلام المرئي-، وقد انحسرت اللغة الفصحى في الإعلام المرئي انحساراً ملحوظاً، وكان هذا أول انطماس لمعالم الهوية باعتبارها هوية أمة، إلى انبثاق هوية أخرى تمتد على حدود جغرافية في حوض الخليج.
وبحكم الانفتاح على الخارج، ومعرفة ما لدى الآخر، ومع تدفق المال بشكل ساحر ومجنون، أصبح الفرد في هذا المجتمع يبحث عن نماذج ونكهات غير محدودة، ووصلت به إلى حد السؤال عن الذات وآخر ما يرضيها، أو البحث عن ابتكارات جديدة وصلت به إلى عالم غير سوي من الخيال، مما أدى إلى خلق هواجس غير محدودة في إرضاء الذات.
وكلامي في هذا المقام لا ينسحب على قطاع شعوب تلك المنطقة، بل يشير إلى مستوى لصيق بالكيان الرسمي لهذه المنطقة، ولما صاحب من متنفذين يُرضُون الحاكم ويَرضَون به، عن قطيع من الناس يحاول تمثل الآخر إلى حد التماهي والذوبان فيه.
هذا الأمر أثار سؤالاً مشروعاً: ما هي هوية الخليج؟ وما هي معالمها؟ وأين ضاعت تلك الهوية؟ وأين غابت الذاكرة؟ وما هو التاريخ عند مشيخات الخليج؟ وما هي حدود الانتماء؟ وهل الانتماء هو الذي يشدهم إلى البقاء على الرغم من كل شيء؟ وأن الهوية محض نظام من مشيخات قبلية تعوم في بحيرات من المال وتتجاهل التاريخ وتتحدث بلغة لا تشبه ذلك التاريخ الذي كانت تنتمي إليه؟
إنها صرخة في صحراء تنبع من قلب يحترق على ما ضاع من تاريخ وما ضاع من ذاكرة وما انطمس من هوية، إنها صرخة تقول لتلك المشيخات أنقذوا انتماء الخليج، أعيدوه إلى تاريخه، أظهروا هوية الأصالة فيه، أشعروه بمحيطه العربي والإسلامي، دون أن تضيعوه في غفلة من الزمن، أو تُذيبوه أو تُخضعوه، في ظل مرحلة كولونيالية جديدة!
- 2025-03-30بعض الكسبة!
- 2025-03-28رحيل الدكتور سالم النويدري .. العملاق المجهول والفارس الذي لم ينكص
- 2025-03-27الإرهاصات السياسية من 1970 حتى العقد الثالث من بعد 2000 (2)
- 2025-03-26تأثير الخصخصة على المؤسسات المحلية في البحرين وآليات انتعاش الاقتصاد المحلي
- 2025-03-20الصهاينة في البحرين.. لا جالية ولا من يحزنون